عن الدين" خطابات لمحتقريه من المثقفين فريدريك شلايرماخر - كوثر فاتح - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الجمعة، 12 يونيو 2020

عن الدين" خطابات لمحتقريه من المثقفين فريدريك شلايرماخر - كوثر فاتح


ملخص
كان لكتاب شلايرماخر "عن الدين" وقع خاص في الفكر اللاهوتي البروتستانتي منذ نهاية عصر الانوار. واستمر أثره الى اليوم لما يحمله من تجليات للتجربة الدينية، انطلاقا من مقاربة تأملية اعتمد فيها شلايرماخر بنية الاعتراف والخطاب السائدتين في الفكر التنويري، بغرض الإفصاح عن عمق التجربة الدينية وخصوصيتها.
سنتناول في هذا المقال الترجمة العربية للكتاب الصادرة في الثلث الأخير من سنة 2017. ثم نعود بعدها لمعالجة بنية الكتاب واطروحته. غرضنا من ذلك الوقوف عند تقاطع اللاهوتي والفلسفي في فكر شلايرماخر أولا ثم استجلاء منشأ مشروعه الهيرمينوطيقي لاحقا.
Abstract
« On religion : speeches to its cultured Dispersers » is a masterly expression of  Protestant apologetics of the modern period , wich powerfully displays the tensions between the Romantic and Enlightenment accounts of religion. In this book, the youthful author E.F. Schleiermacher offered a major intellectual justification of the act of faith. Refusing to identify religion with metaphysics or morals,he located its essence in intuition and feeling. For him, religion is the feeling and intuition of the universe or the sense of the Infinite in the finite

This paper support the view that the emergence of this book in 1799 marked the beginning of the era of Protestant Liberal Theology and philosophy , and it offered a new approach of understanding : Hermeneutics. Second, we examine the Arabic translation of 2017 as a particular challenge of interpretation .We close by offering a summary of Schleirmacher’s theory of religion

كلمات مفتاحيةالدين-الرومانسية-الشعور-التجربة-اللامتناهي.

Keywords
Religion- Romanticism- Feeling- Experience- Infinity

عرفت نهاية القرن 18 تراجعا للمعطى الديني في الساحة الفكرية الغربية باعتباره اهتماما خاصا بالعامة من الناس، من شأنه ان يقدم لهم مبررات وجود تناسب مستوياتهم الفكرية، تطلعاتهم النفسية وحاجتهم للمتعالي والميتافيزيقي. دون ان يرقى هذا الدين للإجابة عن أسئلة الوجود الكبرى التي ارقت النخبة المتنورة. وحل محله دين طبيعي يستغني عن الحاجة للرسالة السماوية.  فسادت قيم أخلاقية تتعالى على الأوامر و النواهي الدينية بتأثير من مفكرين كبار من أمثال سبينوزا، فيشته، شليغل، ديدرو، فولتير ... ليقدم أحد رجال الدين البروتستانت اليافعين  قراءة فلسفية أكثر منها لاهوتية عن الدين وعن ماهيته داعيا معاصريه من الرومانسيين و التنويريين  الى تجاوز سوء الفهم الذي لحق التجربة الدينية في عصر الانوار ،مدشنا لمرحلة جديدة في مباحث الدين وقضاياه ،أدبيات التأويل ومدارسه ((Simon,1974.لهذا الغرض  يعتبر كتاب شلايرماخر "عن الدين" مرجعا أساسيا لكل مهتم بالبحث في  الرومانسية  الألمانية خصوصا و فلسفة الدين بوجه اعم.
اصدر فريدريك دانييل أرنست  شلايرماخر (1768-1834) هذا الكتاب سنة 1799 وهو في الحادية و الثلاثين من عمره .لذلك يعد هذا الكتاب من كتابات الشباب المتحمسة و  التي سيبتعد شلايرماخر عن نسقها و بعض اطروحاتها  في كتاباته المتأخرة. هذا الكتاب إذن يقدم   لموقف اول لشلايرماخر من الدين، وفيه تتجلى الارهاصات الأولى لما سيصبح لاحقا الرومانسية الألمانية. هو ايضا نواة الهيرمينوطيقا كتوجه جديد لبناء معنى آخر عن الوجود وعن العالم. هو كذلك اللبنة الأولى للظاهراتية الدينية بل وحتى لسوسيولوجيا الدين.
في مقالنا هذا سنقف عند هذا الكتاب من جوانب عدة نتطرق في البداية إلى ترجمته العربية سنة 2017على يد الأستاذ أسامة الشحماني. لنذهب بعدها للاشتغال على بنية الكتاب. قبل أن نتناول في الأخير مفهوم الدين من زاوية الرومانسية الأولى مع اللاهوتي والفيلسوف الألماني شلايرماخر.

1-  ببن الترجمة والتأويل
تعود ترجمة كتاب شلايرماخر "عن الدين "الى اللغة العربية، إلى تضافر جهود الناقد والمترجم العراقي أسامة الشحماني والمفكر واستاذ الفلسفة العراقي عبد الجبار الرفاعي في إطار اجتهادات مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد. وتعد هذه اول ترجمة لهذا الكتاب باللغة العربية. صدرت عن دار التنوير للطباعة والنشر بلبنان.يقع الكتاب الأصلي في 312 صفحة اما النسخة المترجمة 200 صفحة فقط مع مقدمة للمترجم و المراجع.
نقرأ  في  التقديم الذي وقعه عبد الجبار الرفاعي :" لبث كتاب "عن الدين :خطابات لمحتقريه من المثقفين "اما مجهولا أو منسيا أكثر من قرنين لدى الباحثين المهتمين بالفلسفة و اللاهوت والدين في دنيا العرب ،ولم أعثر على دراسة عنه أو مقالة تنوه به ،وتعرف القارئ العربي بأهميته".(شلايرماخر ،ص 14).نفهم من هذا أن ضعف إقبال الفكر العربي على المباحث اللاهوتية في كتابات شلايرماخر يعود اكاديميا  إلى اقتصار اهتمام الباحثين بتوجهه الهيرمينوطيقي في الفلسفة .زد على ذلك أن اللاهوت المسيحي لا يشكل قضية فكرية تستنفر الفكر العربي و الإسلامي مؤخرا .بل و ان هذا الفكر الإسلامي هو بدوره ما زال خاضعا لتيارات أصولية تستعصي بدورها على التحديث وإعادة بناء المعنى. وقد يكون لغياب مسارات أكاديمية مختصة في الدراسات الدينية الغير إسلامية ما يبرر لضعف الإقبال على كتب فلسفات الدين. لكل هذا يمكن القول إن الاجتهاد المشترك لأسامة الشحماني وعبد الجبار الرفاعي قد يدشن لانتقال جديد نحو دراسات مقارنة في مباحث الفكر الديني ينفتح من خلالها الفكر العربي على التجارب اللاهوتية والفلسفية البروتستانتية الغنية خاصة في المانيا. طالما أن هاجس مساءلة الثوابت وإعادة قراءة الموروث قد أصبح ملحا في الفكر العربي والإسلامي.
وفي موضع اخر يرى عبد الجبار الرفاعي في تقديمه للكتاب بأن "شلايرماخر لم يتمسك في فهم الدين بالعقل لنقص أدلة العقل، ولم يتمسك بالعلم لنقص نظريات العلم، وإنما أحترم طريقا يتحدث لغة تحاكي لغة الشعراء، وتستوحي مخيلة الفنانين، لاكتشاف جوهر الدين وتفسير وظيفته."(ص6). لذلك جاء الكتاب بلغة أقرب للشعر والانفعال الخطابي والاعتراف اذ يستسلم شلايرماخر احيانا كثيرة لمهمة الواعظ في الكنيسة وتجرفه حماسة النصح والإرشاد. ويذهب الرفاعي لتشبيه الكتاب بالعظة الدينية من حيث أن "شلايرماخر يستعمل عبارات يتداخل فيها الشعر المنثور بالوعظ، وكأنه كاهن بليغ لا يكف عن صب حملته الحماسية على رؤوس رعيته."(ص12). بل وان شلايرماخر نفسه يبرر في كتابه لجوؤه الخطاب والاعتراف: " وهذا هو السبب الكامن وراء استحالة تناول الدين بشكل يزيد عن الخطابية بكل ما يجب أن تتحلى به من جهد لغوي وفني و بلاغي رفيع، خطابية تكون على استعداد لتبني كل ما تقدمه الفنون المرموقة من ابداع، تساعد على جعله خطابا مقبولا و فاعلا. هذا النوع من الخطاب لا يتفوه به الأمن كان قلبه عامرة بالحاجة لذلك المقدس، لأنه سيكون دليله للمعنى."(ص 155).
ولعل هذه اللغة الشعرية هي التي ستجعل من ترجمة "عن الدين" تحديا شاقا ومعاندا لمترجمه أسامة الشحماني تطلب منه ثلاث سنوات من الاجتهاد والمراجعة.
اعتمد المترجم في نقله لهذا الكتاب إلى اللغة العربية على المخطوطة الاصلية المحفوظة بالمكتبة المركزية في زيوريخ بسويسرا. علما ان الطبعات اللاحقة التي صدرت سنوات 1806،1821،1831 قد عرفت تنقيحا وتعديلات من قبل شلايرماخر. ونجد في الترجمة الفرنسية الحديثة لهذا الكتاب لريموند برنارد الصادرة سنة 2004 اختلافات بينة مع الترجمة العربية تتعلق بالأخص بتلك الإضافات التي تجاهلتها ترجمة الشحماني والتي تحمل موقف شلايرماخر من الثورة الفرنسية ومن الفكر اليهودي.
على مستوى اللغة، تصرف المترجم بأريحية احيانا في كلمات النص الاصلي. وقد يكون لهذا ما يبرره. فمن جهة اولى تستعصي اللغة الالمانية على الترجمة البسيطة وتستنفر كل معاجم الدلالة والمعنى. ولعل في عجز الترجمة إلى اليوم عن نقل مفهوم Daseinإلى لغات أخرى خير دليل على معاندة الألمانية لعملية الترجمة. وبالأخص ان كانت تزاوج بين الشعرية والخطابية كما أسلفنا سابقا. من جهة اخرى، وان كانت ترجمة الشحماني رصينة الا ان المترجم في احايين كثيرة اغتصب زمانية جمل شلايرماخر ونقلها الى خطاب اللغة الفلسفية المعاصرة مستبيحا أحيانا معنى بعض العبارات. كما في الخطاب الثاني حيث نقرأ: «واذا فإن مشاعركم اصبحت غريبة عنكم، وكأنها اضطراب سيكولوجية دخيل أو صورة كاريكاتورية عارضة "(ص 87). في حين نقرأ في النص الاصلي:
"und Euere Gefühle sind mimisch nachgebildet wie fremde Physiognomien, und eben deswegen Karikatur »
لتكون عبارة "سيكولوجي "خارجة عن السياق الزمني للنص وان كانت تحيل على معنى الشعور الوارد في الجملة الاصلية.
وفي الخطاب الثالث نجد عبارة " ان من يعترض طريق الدين هم أولئك المتعلمون البراغماتيون "(ص127). لتستوقفنا لفظة البراغماتيين .
اذ نجد في النص الاصلي بالألمانية"die Verständigen und praktischen Menschen  "
والمقصود بها العمليون من المثقفين اي اصحاب المعرفة العملية والتوجه التجريبي العقلي.
وعليه، تستوقفنا في ترجمة الشحماني مفاهيم انثربولوجية، اجتماعية وفلسفية من قبيل: التلقي، السرديات، التنشئة الاجتماعية، الوجودية، التوجهات المادية، الوعي الاجتماعي، الوضعية...
هكذا فترجمة الشحماني قد نقلت نص شلايرماخر من الرومانسية الى ما بعد الحداثة. ومهما يكن، فإن ترجمة الشحماني قد جعلت من قراءة هذا "العمل المعقد "كما يصفه في مقدمته كتابا ممكن القراءة في اللسان العربي.
وعلى العموم الترجمة في حد ذاتها فعل تأويلي وإعادة كتابة. فكل نقل لنص من لغة الى لغة آخر هو بالأساس نقل لنسق فكري، دلالي، ثقافي ولغوي من سياق لآخر مع ما يفترض من تحديات، اكراهات وتعديلات. لذلك لا وجود لترجمة خالصة او بريئة. وقد يكون فيما صرح به Walter Benjamin  في كتابه " مهمة المترجم" تأكيد على أن الترجمة ليست فقط نقل لمحتوى لغوي من لغة الى اخرى و انما بناء جديد لمعنى سابق ،كما لخص ذلك في استعارة  المزهرية المتكسرة .فلا تشبه الترجمة باي حال من الأحوال النص الاصلي بل و انها تنتج نصا أخر مستنسخا.

لذلك قد يجوز لنا أن نقول بأننا أمام كتاب "عن الدين" لكن وقد غير ولاءه من شلايرماخر إلى أسامة الشحماني.

2-بنية الكتاب
حجم الكتاب صغير ضمنه شلايرماخر خمسة خطابات تنتظم كالآتي:
1-دفاعا عن التجربة الدينية Apologie :
2- عن جوهر الدينÜber das Wesen der Religion :
3- عن التثقيف للدينÜber die Bildung zur Religion :
4-البعد الاجتماعي للدين بين الكنيسة و الكهنوت : Über das Gesellige in der Religion oder über Kirche und Priesterthum
5-حول الأديان :  Über die Religionen
ويعد شلايرماخر من أبرز مترجمي حوارات افلاطون ولعل هذا ما يفسر اختياره لهذا النمط من الكتابة في دفاعه عن التجربة الدينية.
ذلك ان كتاب "عن الدين" هو حوارية بضمائر: انا ،أنتم ،نحن ،مع وجود مخاطب واحد يحتكر الكلمة ويرد من خلالها على مخاطبين غائبين حاضرين مفندا مزاعمهم التنويرية وداعيا إياهم الى قراءة شمولية للإنسان دون اقصاء لأي من الجوانب خاصة الدينية منها. اما كتابه اللاحق Monologen(1800) فقد جاء في صيغة المناجاة الفردية المتأملة في الوجود و في الفعل الإنساني من منظور فلسفة أخلاقية. (Tétaz,2011 )
لهذا الغرض يقر Reymond بان شلايرماخر هو Verbomoteur اكثر منه Inscriptomoteur  مبررا ميله لبنية الحوار اكثر من السردية.(Reymond, 2008)
وبنية الحوارية تغلب في الكتابات الرومانسية كشكل من اشكال التفلسف الجماعي بغرض بناء جماعي للحقيقة. او ما يسميه « symphilosophie » : schlegel 
فبناء المعنى من منظور شلايرماخر يتشكل داخل الحوار في سياقه وجداله.فلا إمكانية للفهم في غياب الاخر. فكل حوار هو Einverstandnis بمعنى التفاهم والتوافق. ((Guillaume,2014و عليه فالفهم من منظور هيرمينوطيقا شلايرماخر عملية تشاركية وليست دينامية انطولوجية فردية كما هي عند هيدغر مثلا في توجهه الوجودي. ولان الدين تجربة وجودية وشعورية عند شلايرماخر فإنها لا تقصي الغير بل تنفتح على الحوار، التبادل وحتى الاختلاف كما صرح بذلك في آخر خطابات الكتاب:"والدين يكره الوحدة «، وحتى الفهم وبناء المعنى لا يتشكل الا داخل الحوار و التعدد. ((Eihrhardt,2005

-3الدين كشعور
لا يمكن قراءة فكر شلايرماخر بعيد عن انتماءه البروتستانتي ،تعليمه المورافي  ، شبابه الرومانسي ، ترجماته لأفلاطون ، تأثره باسبينوزا أولا و رفضه لتصوره للدين الطبيعي،  ثم كانط لاحقا معترضا على تغليبه للأخلاقي على  حساب الديني ... كباراديجمات مؤسسة لتوجهه الفلسفي و اللاهوتي.
نشأ شلايرماخر داخل اسرة متدينة،  اذ تلقى مبادئ البروتستانتية الأولى على يد والده  قبل ان يواصل تكوينه اللاهوتي ضمن طائفة اخوية مورافيا اللوثرية،  الإصلاحية،   الساعية لتجديد الكنيسة المسيحية و التبشير بالمسيح المنقذ .تميزت هذه الطائفة بميلها للزهد،  التقشف ، التعبد، السلم،  التربية الصارمة و تقبل الاختلاف دون تمييز لعرق،  اصل او مكانة اجتماعية .هذا التسامح الذي نشا فيه شلايرماخر سيترك اثره في حياته و كتاباته.هو ذا يصرح في خطابه الأول " و لست متحمسا للتعامل مع النمط القديم من المتدينين و سواهم من السطحيين المتباكين ممن لا يعبئون بالوشائج الروحية و يريدون للعويل على انقاض جدران صهيون اليهود و اركانه القوطية ان يرتفع مرة اخر".(ص 28) ونلمس حضورا قويا للتأثير المورافي في دفاعه عن التعدد و عن الكونية الإنسانية رغم الاختلاف،  كما جاء في قوله " تذكروا ان اسمى هدف للدين هو ان يكشف كونا متكاملا من الإنسانية ، بكل ما لها من جوانب"(ص 116)
في سنين شبابه،  عاش شلايرماخر فترة قصيرة مع أفراد حلقة  Iena  كانت كافية لان يتأثر بتوجهاتهم الرومانسية لتطبع كتاباته بحسهم التأملي. فهو وان كان قد انصرف عن اهتماماتهم الفكرية بعد خلافه مع شليغل و شتنبر 1799 بشان اختلاف في الرؤى و بالأخص موقف شليغل  من الدين ، الا انه  ظل طيلة حياته وفيا لمشروع إعادة كشف الحقيقة الرومانسي .  هذا و يندرج كتابه "عن الدين" ضمن محاولته  الدخول في حوار مع من يسميهم "محتقريه من المثقفين" ويقصد بهم بالأساس جماعة الرومانسيين الاوائل من معاصريه و على راسهم الاخوة  ،Schlegel  Ludwig Tieck ، Novalis...
لكن  تأثير شلايرماخر سيكون واضحا  أيضا لدى شليغل Schlegel  و نوفاليس Novalis و دعوتهما لقيام دين رومانسي منفتح على التعدد و على التجديد .وان كانت مسألة الدين بعد شلايرماخر ستأخذ اتجاهات أكثر تعقيدا لدى الرومانسيين.
يعكف شلايرماخر في مستهل كتابه على    الإقرار بأن النخبة المثقفة قد ابتعدت عن الدين لسوء فهم لشمولية الوجود. حيث يسلم شلايرماخر بالتداخل العضوي بين كل مناحي الوجود الإنساني رافضا اقصاء جانب على حساب اخر ومناديا بتقويض المعنى الواحد. (Reymond,2005) ويبدأ من تنبيه محاوريه الى ان اقصاءهم للدين وتحجيمهم له ينطلق في الأساس من سوء فهم لمعنى الدين   ومن انغلاقهم على التعدد.
وقد خلص شلايرماخر الى اعتبار الدين تجربة وجدانية. ذلك وتنطلق عنده هذه التجربة الدينية كوعي باللانهائي (Simon,1974). انها "تلك التجربة الباطنية والقوة الكامنة في اعماقي". (ص  29) هي تجربة تنفتح من خلالها الذات على رحابة الكون ضمن علاقة تجاذب بين النهائي و اللانهائي،  بين محدودية الانسان و لا نهائية الكون."و الدين هو الإحساس بالتواصل مع المطلق و الطعم اللانهائي للمعنى و لا يتحقق فهم الدين من دون كمال هذه الدائرة."(ص 70)
ويتابع شلايرماخر لافتا الانتباه الى ان الدين «شعور" و إحساس بالمطلق، باللانهائي، بالفن، بالأخلاق، بالعقل...وهنا لابد من الإشارة إلى أن   مفهوم الشعور اساسي في فلسفة شلايرماخر حاضر في كتبه "عن الدين" اولا ثم في كتابه اللاحق "dialectik" (."(Simon,1974و يتحدد الشعور عنده كحدس فكري باللامتناهي يتجاوز من خلاله الإنسان محدودية المادي و المباشر.
غير ان شلايرماخر يميز بين الدين، الاخلاق، الميتافيزيقا والفن. ويكتب «عليكم ان تعترفوا بالدين بوصفه النقطة الأعلى في هرم الفلسفة، وما الميتافيزيقا والاخلاق الا موضوعات جانبية له، دائرة في فلكه."(ص 64)
فالأخلاق لا تشكل الا جزءا يسيرا من مضمون الدين. ذلك ان التجربة الدينية في استقلال كامل عن الحس الجمالي في الفن وعن المبدأ الأخلاقي.
اما الفن فإنه وان كان يجاور الدين في "اختراقه للماورائي"(ص 144) الا انه يظل عاجزا عن كشف معنى العالم دون مؤازرة الدين القادر على التصريح باللامتناهي والمطلق وك: «نقطة التلاحم والتماهي بين الفاني والابدي"(ص 197)
من جهة أخرى لا يتشكل الدين عند شلايرماخر الا داخل وحدة الكائن الانساني وتعدد الشعور الديني. وهو وان كان في آخر خطاباته الخمس قد انصرف لاعتبار المسيحية «دين الأديان " الا انه امن بانه "لا يصح الدين إذا ما ارتبط بشباك الطائفية وان كانت الاخيرة تصوره بطريقة تبدو كما لو انه منها ولا يتطلع الا لها". (ص 194).
يبدو في الختام رفض شلايرماخر لكل تصور مغلق عن الدين و عن الوجود الإنساني و دعوته الملحة إلى ذاتية في مقاربة الظاهرة الدينية بعيدا عن جفاء العقلانية و جحود المادية  ،مدشنا بذلك لمرحلة التأويلية الرومانسية و رهانها على إعادة بناء المعنى بعيدا عن تسييجات منهجية أو فكرية.

تركيب:

في المجمل، هذا الكتيب عن الدين هو انطلاقة لقيام فهم جديد عن الدين، خلص المسيحية من انغلاقها الدوغماءي ومن تعصب معارضيها وجعل من الدين قضية انسانية. انه حوارية مع الفكر التنويري اولا ومع كل الخطابات التي تنتفض ضد الدين وضد مشروعيته. هو كذلك تزكية للمشروع الرشدي عن الحوار الممكن بين اللاهوت و اللوغوس و بين الفلسفة و الدين .

مراجع
-شلايرماخر فريدريك. "عن الدين"خطابات لمحتقريه من المثقفين. أسامة الشحماني. دار التنوير للطباعة والنشر.بغداد.2017.
-Ehrhardt,Christiane . Religion, Bildung und Erziehung bei Schleiermacher: Eine Analyse der Beziehungen und des Widerstreits zwischen den »Reden über die Religion« und den »Monologen.Vandenhoeck & Ruprecht, 2005 .
-Simon ,Marianne, la philosophie de la religion dans l'œuvre de Schleirmacher, J.Vrin,Paris :1974.p8,105,112
-Reymond Bernard, A la découverte de Schleirmacher ,Van Dieren éditeur,2008.p 7.13.20.18.27.28.
-Tétaz,Jean-Marc, Conférences sur l'éthique, la politique et l'esthétique (1814-1833)Traduction, introduction,présentation et notes .Genève : Labor et Fides,2011.
-Lejeune,Guillaume, Vers une pensée moderne du dialogue. F.Schlegel et F.D.E.Schleirmacher.Guillaume le jeune.Archives philosophies.2014.cairn.info. consulté le 19/05/2020
المرجع ا
http://www.zeno.org/Philosophie/M/Schleiermacher,+Friedrich/%C3%9Cber+die+Religion/2.+%C3%9Cber+das+Wesen+der+Religion


عن الدين
خطابات لمحتقريه من المثقفين
فريدريك شلايرماخر
ترجمة اسامة الشحماني
On religion : speeches to its cultured Dispersers 
F.E.Schleirmacher


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق