سقفٌ من قصب - وداد طه - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأحد، 21 يونيو 2020

سقفٌ من قصب - وداد طه



أزقّةُ المخيّم معتمة، لكنّها منذ زمنٍ لم تعد تخشى العتمة. دخلتْ تلبس عباءتَها السوداء. عيناها نحو الأرض. رجلاها ثقيلتان. أنفاسُها متقطّعة. لم تُرِدْ أن تراها نساءُ الحيّ. عرفتْ أنّ له بسطةَ خُضَرٍ في السّوق، وها هي تقترب من المكان الذي يُفترَض أن يكونَ فيه، كما وشوشتها أمُّ محمّد في العزاء: "عنده بسطة خيار بالسّوق. أسمر. طويل. عامِلْ وشْم أخضر على رقبته."
مشت وألفُ سؤالٍ يَطْحن رأسَها. السّوق مكتظّةٌ بالنّاس؛ لا بدّ أنّه يومُ جمعة. يجتمع الرّجالُ للصّلاة، وتقصد النِّسوةُ السّوقَ للتّبضّع. عرباتُ الخُضَر، المتراصّةُ على جانبي الطّريق وأمام أبواب المحلّات، تجعل السّوقَ ضيّقةً بشكلٍ مخيف.
منذ سنين لم تخرجْ للتّسوّق؛ فقد كان محمّد يشتري لها ما تريد!
***
ذلك اليوم، فزع الجميعُ على صوت رشّاشاتٍ ورصاص، فاختبأوا في البيوت. كانت ابنتُها الصُّغرى ما تزال في المدرسة. لم يقل شيئًا. اختفى، فقلقتْ ووقفتْ على السّطح على الرغم من الرّصاص. مرّت ساعة، وإذ به يَلُوح، حاملًا أختَه، من بعيد. لقد كان أشجعَ شبّان الحيّ. فكيف حصل له ذلك؟
كانوا يلعبون الورقَ في بيت أمّ حسين: محمّد ابنُها الأوسط، وأخوه الأكبر، وابنُ أمّ عامر، وحسين. صوتُهم كان يصل دارَها، التي تفصلها عنها ثلاثةُ أسطح، يقفز عليها الشّبابُ اختصارًا للوقت، أو حين تقع اشتباكاتٌ بين الجماعات المسلّحة تفاديًا للرّصاص. هرعتْ إلى السّطح. لفّت رأسَها بمنشفة المطبخ وصرختْ، وهي تصعد الدّرجات السّتَّ بين المطبخ والسّطح: "محمّد، يمّا وينكو؟"
لم يُجب أحد. ابتعلتْ ريقَها. نادت أختَها زهيّة. خرجتْ أختُها ووقفتْ بباب الدّار. خرج زوجُ أختها ووقف قربها. زوجُها، الذي كان نائمًا، استيقظ على صراخها وحاول تهدئتَها: "إسّا بييجو. تخافيش. اسكتي وفوتي لجوّا. متعوّدين عالطّخّ، شو هي أوّل مرّة؟ فوتي يا مرا!"
لم تكترثْ. نادت من جديد: "هيثم، محمّد، حسين، يمّا وينكو؟"
***
أمسكت السّلسلةَ الفضيّةَ التي كان يضعُها حول عنقه. كان قد حفر اسمَ حبيبته عليها، وكان يسألها دومًا: "يمّا، ايمتا بدّك تخطبيلي عَلْيا؟"
لامستْ يدُها رقبتَه الباردة. وضعتْ يدَها على جبينِه الأسمر؛ كان باردًا أيضًا. سقطتْ دموعُها. نامت فوقه وتلوّت. حضنتْ وجهَه ساعاتٍ طويلة. صرختْ. عفّرتْ وجهَها بتراب المقبرة. لطمتْه بحرقة. دفنتْ غصّاتِها ويديْها في صدرها وهي تشقّ ثوبَها. لم يرجعْ محمّد من الموت؛ قتلتْه رصاصةُ مجهولٍ وهو يلعب الورقَ في بيت أمّ حسين.
***
مرّت سنة، لم تنزل فيها من عليّتها، التي سقَفَها زوجُها بقرميدٍ أحمر بعد أن صارت تبيتُ فيها، لا يمنعُها عن ذلك بردٌ ولا حرّ. وجوهٌ كثيرةٌ تكتظّ بها السّوقُ، لكنّها وجوهٌ بلا ملامح. ضعف بصرُها، وجفّت عيناها، فلم تعد ترى إلّا أطيافًا ملوّنةً تتحرّك. تختنق ويضيق بها المكان. يفْسح لها المارّون. ترفع بصرَها كي تشكرَ أحدَهم وقد أزاح بسطتَه من دربها، فيلوح وشمُه الأخضر: صقرٌ يحمل بندقيّةً في فمه.
انتبه إلى وقوفها صامتةً. وما إنْ فتح فمَه ليسألها حاجتها حتّى قالت:
- هذا الّي عملتكوا ياه الثّورة؟ تقتلوا بعض؟ مش مكفّينا الإسرائيلي بقْتلنا، إنتو كمان علينا؟ شو عملّك إبني يا عرص لتقتله؟
انتبه الشّابُّ إلى هويّتها. قال من دون شعور بالذّنب:
- أنا عبد مأمور. بعدين، إبنك بلّش مش إحْنا.
- إبني كُلّْ عمره بحاله.
- وإنتِ شو بتعرفي عن إبنك؟ إنّو بقضّي نهاره يلعب ورق عند إمّ حسين؟ ما سألتيه من وين جاب المصاري الي اشترى فيها الفان لأبوه؟ كيف سفّر إخوته يعلّمهن؟ ولا كيف جوّزتوا بناتكو؟ المصاري بتعمي؛ ببطّل مهمّ من وين إجت.
تراختْ سكّينُها في يدها متدلّيةً نحو الأسفل. تراجعتْ عن البسطة. وقعتْ بعضُ حبّات الطّماطم. قرفص الشابُّ والتقطها وأعادها إلى مكانها فوق البسطة. ظلّ ينظر نحوها. لم يتحرّك. وحين غمز بعينه أحدَ أصحابه الذي انتبه إلى ما كان يدور، تحرّكتْ من مكانها وعادت من حيث أتت.
في الطّريق استعادت ما قاله لها:
- حين زعم ابنُكِ أنّه جلب أختَه من المدرسة، كان يكذب. سأقولها لكِ، وإلّي بدّو يصير يصير. كّنا نطلق الرصاص كلّما غطّينا عمليّة تسليم مخدِّرات. ابنك كان من أشطر المروِّجين. وقت حمل أختَه، حطّ البضاعة في شنطتها. غطّيْنا تَحرُّكه برشّاشاتنا. كيف تتوقّعين نهاية تاجر مخدِّرات؟ أنتم تخافون الموت وهو قابع بينكم، وتسكتون عنه وقت تلْمع أساور الذّهب في أيديكم. شوفي إيديك. اسكتي يا خالة وترحّمي عليه. اذكروا محاسن موتاكم. بدّك أبعت معك الصّبي يحملّك البندورة؟
تجلس أمُّ هيثم بظهرها المنحني قرب شاهد قبر محمّد في تلك العليّة. تنظر إلى صورته المبتسمة. تلمع أساورُها وهي تتحسّس القبرَ وتشقّ ثوبَها.
صيدا


هناك تعليق واحد:

  1. لو انكم ذكرتم المصدر نقلا عن مجلة الآداب الالكترونية

    ردحذف