تصوّرُ رواية «أرض قديمة جديدة» لثيودور هرتزل اليوتوبيا الاستعماريةَ،
والسردية الأدبية لبرنامجه الذي عرضه في كتابه «دولة اليهود»؛ الدولة التي
كان يأمل أن تقوم عام 1923. يعقد الرجل المعروف بكونه المنظر الأبرز للصهيونية،
مقارنة بين عام 1903 أي العام الذي لم تكن فيه الدولة، وعام 1923 الذي تكون فيه
الدولة قد قامت، فيقدم مفارقات بين ما كان وما صار، من ناحية نظام الحكم والمساواة
والتقدم التكنولوجي، إلى جانب المكان.
كانت هذه المقارنة بمثابة تصور متفائل عن مستقبل الاستعمار الاستيطانيّ في
فلسطين، ونظرة مبكرة للمدينة الفلسطينية والآخر متمثلًا في الفلسطيني أو العربي.
لم يصب هرتزل، لكنه لم يخطئ أيضًا. فقد تأسست الدولة اليهودية على أنقاض الفلسطينيين،
بعد ربع قرن من الموعد الذي حدده، وبعد جولات من تهجير ومحو الإنسان والمكان
الفلسطيني.
«كان منظر أورشليم في ضوء النهار أقل من ذلك سحرًا. ففي أزقتها الضيقة تعلوها
طبقة الطحلب ترتفع الصرخات والروائح الكريهة. وهناك الكثير من مختلف الألوان وخليط
من الناس البائسين: شحاذون مرضى، أولاد جياع، نساء يرفعن عقيرتهن بالصياح، وباعة
متجولون تتعالى أصوات صياحهم. إن أورشليم ذات الماضي المجيد لم يكن في الإمكان أن
تنحدر إلى أحط من هذا».[1]
في هذه الفقرة يصف هرتزل القدس، مرتكزًا على سردية «الأرض الخراب»،
فتظهر القدس التي فقدت سحرها، كمدينة آلت إلى مآل سيء على يد العرب -الذين لا يأتي
على ذكرهم كشعب أو مجموعة تعيش في المكان، بل كأفراد يعانون من البؤس فقط- رغم
ماضي المدينة المجيد والذي كان متحققًا على يد اليهود.
يعود هرتزل ليقدم في روايته وصفًا للمدن ولكن بعد 20 عامًا: «كانت البيوت
على الغالب الأعم صغيرة وجميلة (..) على غرار ما أنت واجد في مدن بلجيكا»[2]، «كما
أن المدينة كانت ذات طابع أوروبي بصورة رئيسية، الأمر كان يحملك على الاعتقاد بأنك
إنما تقف في ميناء إيطالي كبير. زرقة السماء والبحر وبهاء الألوان أعادا إلى
الأذهان ساحل الريفيرا المبارك بفارق واحد هو أن الأبنية هنا أكثر جدة وأكثر نظافة».[3] لا
تخلو الرواية من تعبيرات عن خلق شيء من لا شيء، وعن المعجزة اليهودية، والتحول
خلال فترة زمنية قصيرة أنتجت فضاءً مختلفًا، بطابع أوروبي، وهو بحسب ما يشير
غابرييل بيتربيرغ دليل على أنَّ هرتزل لم يكن يفكر بطريقة دعائية، فإيمانه بأن
التمكن من إقامة مشروع استعماريّ ناجح في الشرق، على غرار المشاريع الأوروبية، هو
الطريق الأمثل للانتماء إلى الغرب، هو إيمان صادق.[4]
تظهر الرواية أحد العناصر المؤسسة في المشروع الصهيوني، وهو الصراع الذي يقوم على
ثنائية الأرض والسكان، فيتم إعادة إنتاج
المكان، ومحو السكان بما يتوافق مع المشروع الاستعماريّ. فيظهر
الحيز الفلسطيني متخلفًا ومبتعدًا عن الحداثة، وهو أقرب لأن يكون خاليًا؛ فهرتزل
يمارس النفي على الفلسطينيـ/ة ويغيبه في روايته.[5] صحيح أنه
يَستحدث في الرواية شخصية رشيد بيك، لكن هذه الشخصية تكون متماهية مع الاستعمار وترى
فيه مُخلصًا ومساهمًا في التقدم للمكان. هذه التصورّات متخيلة على أساسٍ استشراقي
وهذه نقطة محورية في فضح الخيال الأدبي والسياسي للمستوطن السيد، بحسب بيتربيرغ.
ولعل رواية هرتزل تعلب دورها ضمن يوتوبيا المشروع الصّهيونيّ عن فلسطين، التي هي
ديستوبيا الفلسطينيين.
يشير بشارة دوماني في مراجعته للكتابات العلمية عن فلسطين أنَّ الكاميرا
إلى جانب المجرفة –علم الآثار التوراتي- والمفكرة –أدب الرحلات والتقارير
التبشيرية وسجلات القناصل-، لعبت دورًا في إعادة كتابة الماضي وشكلت المستقبل.
لكنها عند قيامها بذلك، تجنبت التركيز على الناس، باستثناء كونهم جزءًا من الطبيعة
أو شخوصًا غريبة، وركزت، بدلًا من ذلك على المشاهد الطبيعية والمعالم التي تستحضر
أمجاد العصور القديمة.[6] وبذلك تكون هذه الدراسات قد تركت أثرًا
على التخيلات اللاحقة عن المكان وتغييب السكان الأصليين عن السرديات المتعددة،
ليتحول الغياب إلى شكل الحضور المشتهى من المشروع الصّهيونيّ، وهو ما عبر عنه
هرتزل.
تتشابك هذه العلاقة بين الاستعمار والحيز الفلسطيني والعربي في كافة مفاصل
المشروع الصّهيونيّ. يتتبع هذا المقال تلك العلاقة في أربعة إنتاجات درامية
إسرائيلية (فوضى، آل شتيسيل (Shtisel)،
الجاسوس (The spy)،
عندما يطير الأبطال (When Heroes Fly)).
وهي أعمال لا تتمحور بالأساس حول الحيز الفلسطيني العربي، لكنه يكون مسرحًا
لأحداثها، غير منفصل عن سياق إنتاجها وعرضها، وهي متأثرة بالسياق الاستعماريّ
المنتجة فيه.
في هذه الأعمال، تظهر المدينة خالية في أحيان، ورمادية أو صفراء في أحيان
أخرى، وفضاءً معسكرًا في أحيان، لكن الثابت في كل هذا أنَها تعرض وفق تخيل
استعماري فوقي، لا يختلف كثيرًا عما بدت عليه في رواية هرتزل.
نفي الوجود
يسلّط مسلسل آل شتيسيل[7] الضوءَ على جماعات الحريديم في
القدس، من خلال التركيز على حياتهم الشخصية وأنماط علاقتهم الاجتماعية والعاطفية
ومحاولاتهم الهروب من محيطهم العلماني وبناء وسط خاص بهم.
في هذا المسلسل، تبدو القدس بمعالمها وبيوتها وأسواقها وشوارعها خاليةً تمامًا من أي وجود فلسطيني. رغم أن نسبة الفلسطينيين في القدس تبلغ 38% من مجمل سكان المدينة في شقيها المحتلين عام 48 و67. ولعل المشاهد يمكن أن يلاحظ هذا الإلغاء لصورة الفلسطيني بسهولة. فمع أنَّ المسلسل يعرض حياة جماعات الحرديم في حي «غيئوله»، وهو حي يتوسط المدينة المحتلة، فإن شخصياته تتنقل بين مناطق عدة في المدينة دون ظهور أي فلسطيني أو معلم يشير لوجوده.
من مسلسل آل شتيسيل. المصدر: israswiss
أمّا على المستوى المعماري، فعرضت المدينة المليئة بمناطق سكنية عربية وتحتوي
على مساجد وكنائس وأسواق بكونها خاليةً تمامًا من هذه البصمات المعمارية
الفلسطينية. وتم هذا المحو على مستويين؛ يظهر المستوى الأول حداثة المدينة
بأسواقها ومبانيها الجديدة كتأكيدٍ على إسرائليتها. وفي المستوى الثاني تظهر
البيوت القديمة بنمط بصري مختلف عن الإنشاء الفلسطيني، فالمنازل يكسوها القرميد،
لتبدو المنازل أوروبية البناء. وفي المجمل تكون حصيلة ذلك عرض المدينة في شكلها
الاستعماري، واعتبار أنها نتاج للمشروع الصهيوني كونها تمثل حداثته وتراثه، وتنفي
وجود الفلسطيني عنها.
أمّا مسلسل عندما يطير الأبطال[8] فتدور أحداثه بالأساس حول حرب تموز 2006، ويحاول إلقاء الضوء على الأزمات النفسية التي يعاني منها الجنود الإسرائيليون نتيجة الحروب والأزمات التي تتبعها، وكيف تتم معالجتها. تتمحور قصة المسلسل حول الجندي (أفيف) الذي يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، ويخسر حياته وحبيبته. وتجري أحداثه في ثلاثة فضاءات، الجنوب اللبناني، وتل أبيب، وكولومبيا، مع التركيز على كولومبيا مسرح الأحداث الرئيسي.
من مسلسل عندما يطير الأبطال. المصدر: Jewish Journal
يبدو الجنوب اللبناني في المسلسل قطعةً واحدة، ولا تُذكر فيه مدينة أو منطقة
بالتحديد، ويظهر بالأساس في لقطات بالعرض (Wide shot)،
ويصوّر بألوان أقرب إلى الأصفر الباهت، وهو خالٍ تمامًا من السكان، وظهور الآخر/
اللبناني شبه منعدم، كأن الإسرائيلي شن حرب 2006 على الفراغ. وحتى عندما يقع
الجنود الإسرائيليون في كمين ليلي يظهر فيه بعض المقاتلين اللبانيين دون التركيز
عليهم، وفي لقطات أخرى يظهرون كبقع حرارية تصورهم الطائرة. أمّا مكان الكمين فهو
طريق الانسحاب من الجنوب إلى «إسرائيل»، لكنه يظهر كمكان مبهم وغير محدد، يحتوي
على الأشجار وعلى منزل واحد فقط. وبالطبع فإن استرجاع المكان في ذاكرة
أفيف كان بإظهاره وسطًا عدائيًا، لا يحمل سوى الصدمات للإسرائيلي سواء في عام
2006 أو 1982.
يمكن القول إنَّ المدينة العربية غائبة في هذا المسلسل، والعربي غائب ضمنيًا،
بالمقارنة مع تل أبيب أو كولومبيا التي يوجد فيها حيز يمكن للإسرائيلي أنَ يعيش
فيه أو حتى يقاتل، فتعرض كولومبيا ومدنها في لقطات جوية وأخرى من الأرض، يذهب فيها
الإسرائيلي إلى المطعم والشرطة ويخوض مواجهات ضد العصابات. كما تظهر تل أبيب
كمدينة حديثة مليئة بالأبراج عكس الجنوب اللبناني الذي لا يحتوي على أي مظهر من
مظاهر الحداثة أو التقدم.
في المجمل، فإن العرض الإسرائيلي لهذه المناطق بقي حبيسًا للتصور الإسرائيلي
عنها. فتُعرض القدس بنمطٍ أوروبي واضح، خالية من الفلسطينين، بينما تُعرض مساحة
كبيرة من الجنوب اللبناني دون أي تعريف بالمكان.
مدينة الآخر المشتهاة: المعسكر
لم يغب الآخر عن كل الإنتاجات الإسرائيلية، وإنما كان حضوره ضروريًا في بعضها،
لكون هذا الحضور يخدم الفكرة الإسرائيلية. ولعلنا نلاحظ هذا في مسلسل فوضى الذي
يفترض أن أحداثه تجري في قطاع غزة، وتم تصويرها في
قرى عربية محتلة عام 48 ويافا وداخل مراكز تدريب للجيش الإسرائيلي تحاكي غزة والمناطق
الفلسطينية الأخرى. إسقاط الرؤية الإسرائيلية في هذا المسلسل كان واضحًا بما عبّر
عنه «دورون» وهو بطل المسلسل الذي خدم في الجيش، بقوله أنا
لست فلسطينيًا، لو كنت فلسطينيًا لربما اختلفت القصة ولكنني إسرائيلي، والسرد سرد
إسرائيلي، سرد صهيوني، أنا صهيوني وإسرائيلي ولا يمكنني التهرب من ذلك.
أحال المسلسل غزة إلى معسكر تمامًا، ففي كافة الطرق هناك وجود عسكري، ليس للشرطة فقط، بل لمجموعات من المقاومة، حتى المستشفى يحتوي في قبوه مركزًا للقيادة. وهذا هو التصور الإسرائيلي عن غزة، كمكان مسلح حتى الأسنان وكل مكان فيه ثكنة عسكرية، وكل استهداف يحصل له حتى لو كان للمستشفى فهو شرعي ومبرر. هذه المبالغة تنطوي على إظهار بطولة الإسرائيلي وقدرته على النجاح في غزة، رغم كل هذه العسكرة الموجودة في المكان، وتحقيق ذاته على المستوى الشخصي.[9]
من مسلسل فوضى. المصدر: تايمز أوف إسرائيل
كما يتم استحداث صورة أخرى لسراديب وأزقة، ويتم إسقاطها على غزة كي تلائم
بطولة الإسرائيلي، فتحصل فيها مطاردة من قبل أحد جنود وحدة المستعمربين لمطارد
فلسطيني. ما يحصل هو أن المخرج يُنتِج صورةً تخدم حبكة المسلسل على حساب الصورة
الحقيقية للمدينة.
كما تظهر غزة، في عدة لقطات، مساحات فارغة وأقرب للصحراء، وهي مختلفة بالطبع
عن الحيز الإسرائيلي، فحتى المساحات الخالية تكون مشجرة أو شبه مشجرة، وتظهر
الأحراش في داخل «إسرائيل» ولكنها لا تظهر في الضفة الغربية. كما أنَّ استخدام
الفلتر الأصفر كان حاضرًا في هذا المسلسل كما في الأعمال الأخرى، وهي تقنية مرتبطة
بتصوّر المُنتج عن المكان، وبحسب بعض الآراء فإنَّ الفلتر يدعم الصورة النمطية عن
المكان والأشخاص فيه، ويجعل الصورة خافتة في حين وبعيدة عن معايير الحداثة في
أحيان.
بمغالطات أكثر من سابقاتها، عَرضت منصة «نتفليكس» في
العام الماضي مسلسل الجاسوس (The Spy)
الذي يتناول مهمة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين في سوريا. لاقى المسلسل الذي
يروي حياة «إيلي كوهين»، موجة انتقاداتٍ عربية، وذلك لتبنيه الرواية الإسرائيلية.
إذ يشير إلى علاقة كوهين بالرئيس السوري أمين الحافظ، ويجعله مقربًا له. وهذا
ما نفاه الحافظ،
مؤكدًا أنه لم يعرف كوهين إلاّ بعد اعتقاله. بالإضافة إلى مغالطات أخرى متعلقة
بشخصية كوهين نفسه، فقد أوضحت صوفي،
ابنة كوهين، أنَّ والدها لم يكن مغامرًا ولا يمتلك رشاقة بدنية كما أظهر المسلسل.
كما اشتملت المغالظات
التاريخية على صور مبالغ فيها عن مدينة دمشق؛ بحياتها
الاجتماعية ونوعية سكانها وتغلغل الجيش فيها وحتى شكل مبانيها. وعرضت الحياة فيها
من وجهة نظر إسرائيلية بحتة، فما من مشهد وآخر إلّا وتُعرض الفتيات على كوهين،
الذي يرفضهنّ وسط دهشة من إصدقائه ومعارفه؛ ولعل هذا العرض للمدينة ببوصفها وكأنها
مدينة متهتكة وأنَّ المرأة لا تعرض إلاَّ بهذه الصورة طوال المسلسل دون أي فاعلية
سياسية أو اجتماعية، ملبيةً التخيل الاستعماري والاستشراقي عنها.
من مسلسل الجاسوس. المصدر: indiewire
أمّا على المستوى العمراني، فبدت المدينة مكتسية باللون الرمادي، الذي يغيّب
معالم حداثتها. وبنفس المبالغة التي صور فيها فوضى قطاع غزة، تُعرض دمشق في هذا
المسلسل باستمرار وفيها ظهور لرجال الأمن ورقابتهم وآلياتهم العسكرية وسيطرتهم على
المقاهي كتعبير عن انتشارهم، فبدت المدينة كأنها معسكر للجيش السوري بساحتها
وشوارعها ومرافقها.
في هذا المسلسل، لا وجود لمدينة الآخر إلّا إن كانت عسكرية، فلا يمكن للمشاهد
أن يرى عربيًا أو فلسطينيًا في المدينة دون أن يشعر بطابعها الأمني الذي يطغى على
طابعها الاجتماعي وعلى فضائها العام وكافة مرافقها. وخارج المدن، في المناطق
الحدودية، لا نرى إلّا قرى يظهر فيها دومًا الجيش السوري في مواقعه أو خلال نقله
للأسلحة.
لعل هذا العرض للمدينة الأمنية مرتبط بالرؤية الإسرائيلية كحيز معادٍ لها.
العربي والفلسطيني لا يستعاد إلاّ كمفعول به. وكذلك الفضاء فاستعادته هي عملية
للنفي والإماتة له. والنفي للفلسطيني أو العربي لا يكون بتغييبه عن الحضور فقط
ولكن بتغييب سرديته والتحكم فيه وفي طبيعة المكان الذي يعيش فيه، وعرضه بما يلبي
التصور الإسرائيلي.
باختصار، شمولية الاستعمار، والعقلية الاستعمارية، تعمل دائمًا على جوهرة
التصور الخاص فيها كتعبير وحيد عن الواقع، وتغيير الواقع بما يتوافق مع ما تراه.
يافا البرتقال، عن تحويل الهامش إلى المتن
«يافا إذن بلا قَمَر
يافا دمٌ على حجر»
– راشد حسين
«لقد كانت المهمة الأولى، والأهم، للدولة الناشئة حديثًا هي إعادة/ اختراع
فلسطين كمشهدية توراتية، قديمة وخالية، وذلك باقتلاع كل الأشياء والصور التي قد
تحيل إلى الذين هُجِّروا».[10]
يقوم فيلم استعادة Recollection للمخرج
كمال الجعفري، على لقطات من أفلام إسرائيلية مصورة في يافا، وهي المدينة التي
يمارس عليها محو ممنهج لآثار الفلسطينيين، كان آخره البدء في أعمال تجريف مقبرة
الإسعاف في المدينة. في هذه المدينة فقد الفلسطينيـ/ة حيزه ولكن بقيت ذاكرته عن
هذا الحيّز، وهي ذاكرة غريبة عن الواقع القائم، بما أنَّ الاستعمار الصّهيونيّ
يحاول بناء ذاكرة جديدة ومختلفة. هذه الممارسة لا تقوم بشكلٍ أحادي، فكما أنَّ
بلدية تل أبيب التي ابتلعت يافا تعمل على محو الأثر الفلسطيني، فالفسطينيين
والفلسطينيات يعملون على رفض ذلك، مثلما فعل الجعفري في فيلمه،
إذ عاد إلى حوالي 50
فيلمًا إسرائيليًا صور في يافا وقام بسحب عدة لقطات للمدينة تخدم فكرته، وتخدم
تصوره عنها.
عمل الجعفري على تحرير اللقطة المصورة في الفيلم الإسرائيلي، من خلال مجموعة
لقطات في معظمها هامشية في الأفلام. فهو يحول عابر طريق يظهر في الخلفية أو طفلًا
فلسطينيًا ينظر من خلف منزل أو عائلةً تجلس في منزلها، إلى شخصيةٍ مركزية في
الفيلم مقابل محو بن غوريون أو شرطي إسرائيلي من اللقطات.
أظهر الجعفري حساسيةً في الفيلم، فمن خلال اللقطات المصورة قام بالتركيز
على الطرقات والشقوق في الأبنية، وعلى لقطات للمساجد والكنائس الخالية، التي تحيل
إلى الفلسطينيـ/ة الغائب. مع إدخال أصوات للمكان تبعتد عن صخب تل أبيب وتعبر عن
المدينة كما كانت.
الفيلم الذي ينتقل بين لقطات ملونة وأخرى بالأبيض والأسود وتعكس فترات زمنية
مختلفة، يعود للنكبة من خلال الحاضر، واللقطات متداخلة مع لقطات متقابلة أخرى، أي
وضعت خلف بعضها البعض، مثل إظهار الفلسطينيـ/ة والفراغ، وعامل البناء الفلسطيني
والبنايات الجديدة. والبيوت الفارغة في يافا والعمارات الحديثة في تل أبيب وملاعب
الغولف، ومصنع تعبئة البرتقال المسلوب، في تكثيف للواقع والنكبة الممتدة، وتعبير
عن ذاكرته حول المكان. ويظهر في الفيلم حوار وحيد مع الطفلة الفلسطينية يارا التي
تقول إنَّ جدتها تعيش في ناحل عوز[11] وتعجز عن إعطاء تفاصيل
أخرى، في إشارة إلى ارتباك علاقة الفلسطيني مع المكان.
يختتم الجعفري الفيلم بقصة تروى في أسطر مكتوبة تعبر عن محاولة استعادة المكان
مرةً أخرى في محاولةٍ لبناء سردية فلسطينية عنه، مليئة بالتفاصيل ومترابطة بين
لقطات الفيلم وذاكرة الجعفري وأبناء المدينة وبناتها:
«الزاوية حيث السيارة الزرقاء مركونة، تواجه بيت جدي، كانت تلك السيارة تاكسي أحمد فراج، ابن خالة جدتي. إنها هناك في الزاوية مع الحجارة الكلسية، حيث كنت أحب الاستناد حين كنت طفلًا، وفوقنا كانت تطير عصافير السنونو من وإلى الشبابيك، لا زلت أسمع أصواتها تملأ الجو».
الهوامش
[1] بنيامين زئيب
(ثيودور) هرصل، «أرض جديدة قديمة (ألطنويلاند)»، ترجمة: مئير حداد. (تل أبيب:
دار النشر العربي، 1968)، ص 44.
[2] هرصل، المصدر
السابق، ص 65.
[3] هرصل، المصدر
السابق، ص 60.
[4] غابرييل
بيتربيرغ، «المفاهيم الصهيونية للعودة: أساطير وسياسات ودراسات إسرائيلية»، ترجمة:
سلافة حجاوي، (رام الله: مدار- المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2009)، ص
69.
[5] حول ممارسات نفي
الفلسطيني في جانب اخر يمكن مراجعة، فارس شوملي، «إقصاء الفلسطيني من الملصقات
الصهيونية»، مجلة الدراسات الفلسطينية، ع. 109، (شتاء، 2017)، ص 81- 103.
[6] بشارة دوماني،
«المحذوفون من السرد التاريخي»، مجلة الدراسات الفلسطينية، ع. 84 (خريف،
2010)، ص 37.
[7] المسلسل من إنتاج
شركة (yes) الإسرائيلية، ,عُرض الجزآن الأول والثاني منه عام 2013، ويتوفر
على شبكة نتفليكس، وكان من المقرر أن يتم بث الجزء الثالث منه في هذا العام، إلا
أنَّ المنتج أشار إلى أنه تم تأجيله بسبب فيروس كورونا.
[8] المسلسل مقتبس
بشكلٍ فضفاض من رواية (Heroes Fly to Her)
للكاتب الإسرائيلي أمير جوتفريد.
[9] مع تراجع قيمة
البطولة والقيم الجماعية في المجتمع الإسرائيلي، وبروز الذاتية/ الفردانية،
والتحول نحو تحقيق الذات، ووجود وقائع ملموسة، مثل انخفاض نسب الالتحاق بالجيش
والوحدات القتالية. انعكس هذا التحول على الإنتاجات الدرامية فقد ظهرت البطولة
التي تعيش بين تنافضات الخوف على الذات والرغبة في تحقيق حماية المجتمع، مما أنتج
بطولة مؤنسنة ترتكز على الأفراد الذين يتراجعون في وقت ويتقدمون في آخر، في ما
تُشكل البطولة حلًا لمشكلاتهم العائلية والعاطفية وكذلك تحقيقًا لرضاهم عن الذات
بإنقاذ أشخاص أسروا مثلًا، فكانت بطولة تتسق مع التحول نحو تحقيق ذات. للتوسع يمكن
مراجعة: نور الدين أعرج وباسل رزق الله، » من الخلاص الجماعي إلى تحقيق الذات:
تحولات البطولة في الدراما الإسرائيلية المعروضة عبر «نتفلكس»، قضايا
إسرائيلية، ع. 78 (أغسطس 2020).
[10] صبحي الزبيدي،
ترحاليون رقميون: الأوطان –الأرض والأوطان- الصفحات»، ترجمة عبد الرحيم
الشيخ، تبين، ع. 33 (صيف، 2020)، ص 148.
[11] ناحل عوز كيبوتس
إسرائيلي أسس في 26 تموز 1951، بالقرب من قطاع غزة ومقابل حي الشجاعية، ووقعت فيه
وبقربه عدة عمليات للمقاومة منذ خمسينات وستينات القرن الماضي وحتى حرب 2014.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق