مَن يعرف الشاعر
مظفر النواب لابد وأن ترنم بالريل وحمد، قصيدته التي عبرت عنه في زمنها وتحولت إلى
صوت عذب شجي.. ومَن من الذين عرفوه أو سمعوا به لم يردد المشهور من قصائده؟.ومَن
لم يسمعه ويطالبه بإعادتها ويقرأها معه أو يتجاوب معها طربا؟. تسجيلات قراءاته لشعره
ومشاركة اصدقاء له بالغناء والموسيقى ترن باذان كل من سمعها وحضرها أو يسمعها الان
ويرددها بصوت عال، متمنيا قدرته على الإعادة والقراءة والعزف والاستماع. ملايين
المتابعين للفيديوات التي تعيد قراءاته وغناءه وصوته الشجي واطلالاته مترنما في
نصوصه التي حفظت أو رددت قبل أن يقرأها. كلمات مباشرة بسيطة بمعان واضحة موجهة
ومقصودة، تهز المشاعر وتلقي حجرها في مسامع السامعين المغلوبين على أمرهم والصابرين
على البلوى.
في أزمان هربت
اغلب قصائده سرا كمنشورات محظورة، وفي فترات
وأوقات تناقلتها الممنوعات ودفع الثمن المعلوم بسببها، لاسيما بعد أن قدم وترياته
وانشد إلى القدس والعروبة والأوطان التي حملته على وهن. وسجلت قصائده وقراءاته الشعرية تاريخ العذاب
العربي والقسوة التي كابدها، هو ومن معه، في السجون والمنافي وتعدد المحطات والانتظارات
والتقلبات. ولكنه ظل أمينا لنفسه ولشعره، في كل الأحوال والمتغيرات، ولسان حال
الجماهير في كل بلد ومنفى وملفى. رغم دمع البكاء والصوت الحزين وذبحة الالم وظلم
الايام والسنين.
قال في
رثاء ناجي العلي:
آآه من
وجع الروح
لو كان
هذا العراق بدون قيود
أتم
مرارته وجذور النخيل
لضمك بين
جوانحه كالفرات
ويأخذ
ثأرك
من زمن لا
ضمير له
ليس يكفي
دماء الذي قتلوك
لكن دماء
مناهجهم
ويكون
البديل
آهته
الطويلة هذه وحسرته المكتومة دليل صفائه ونشيج روحه، وكأنه يعرف أنها صرخته هو
أيضا وربما الأخيرة. وهو القائل عنها في قصيدته رحيل:
يا وحشـةَ
الطرقات
لا خبر
يجيء من العراق
ولا نديم
يُسكر الليل الطويل
مضت
السنين بدون معنى
يا ضياعي
تعصف
الصحرا وقد ضل الدليل
لم يبق لي
من صحب قافلتي سوى ظلي
وأخشى أن
يفارقني
وإن بقي
القليل
هل كان
عدلٌ أن يطول بي السُّرى
وتظلُّ
تنأى أيها الوطن الرحيل
كأن قصدي
المستحيل
منذ
ولادته في كرخ بغداد عام 1934 وهو يحمل صليب العراق، بعد أن غادره مكرها، فرسم
بإحساسه المرهف، بالعامية العراقية المدينية وبالعربية الفصحى، قصائده التي شهرته
ونشرته في المدن العربية ومنتديات العرب الأجنبية، وتغنى بها المعارضون والغاضبون
والرافضون، في الشوارع والسجون، في الحفلات والمناسبات، في تجمعات وتظاهرات الغلابة
والمحرومين..
فالثورة
ليست خيمة فصل للقوات
ولا تكية
سلم للجبناء
وإياكم
أبناء الجوع فتلك وكالة غوث أخرى
أسلحة
فاسدة أخرى
تسليم آخر
لا نخدع
ثانية بالمحور أو بالحلفاء
فالوطن
الآن على مفترق الطرقات
وأقصد كل
الوطن العربي
فأما وطن
واحد أو وطن أشلاء
(....) المرحلة
الآن لتعبئة الشعب إلى أقصاه
وكشف
الطباخين..
من بغداد
إلى دمشق مرورا بالكثير من العواصم والمدن العربية ظل مظفر يكتب عنها بحب
واسع وانتظار طويل وصبر كبير. وظلت كلماته معبرة عنها وعن أيامه فيها، منتصرا للقضايا
العادلة، ومعبرا عنها بصدق، نشيدها وعنوانها. وقد سجل موقفه الشعبي من السياسات
الرسمية ومن قمم الحكومات وغدر المتهربين من صراخ الأمهات وانين الجياع. فشهدت له
حتى المفردات التي يختارها في نصوصه، ولهذا تعلقت بذاكرة الناس تعبيرا عن صرخات
عذاب وغناء امل لفجر عربي جديد.
للريل
وحمد والوتريات الليلية وزرارير البراري وعشائر سعود وايام المزبن والبراءة وغيرها من القصائد التي اشتهر بها وعرف شاعرا
قديرا في اختيار المفردات واللقطات والمعاني الدالة عن المعاناة والآلام والحسرات
والعذاب ومن نسيجها انطلاق الامل والثورة والفرح والتحدي . ورغم أن أغلبها مفردات
شعبية عراقية، من للهجة المحلية المدينية, الا أن قارءها وسامعها يتجاوب معها ويتعاطف
مع نشيجها ويترنم بها في خلوات النفس والليل وحتى في المهرجانات والإحتفالات
العامة والخاصة.
اشتهرت قصيدته للريل وحمد قبل تحولها إلى أغنية يتبارى المغنون لأدائها ونال أو صعد إلى منصة الشعر الشعبي الحديث بها، واعتبرها النقاد بداية مرحلة شعرية جديدة في الشعر الشعبي، ومقدمة فنية، لغة وقصة وبناء شعريا، في سجل الشعر الشعبي العراقي. وأصبح مظفر النواب شاعرا مميزا ورائدا في تطوير الشعر وبنائه الفني. ثم أخذت قصائده التي تناول فيها مواضيع سياسية مكانها البارز في الشعر والتذوق الفني، واشتهرت بشكل واسع، يرددها الناس ويتغنى بها الكثيرون، في العراق وخارجه. وحظيت بلا منازع قصيدته وتريات ليلية مكانة واسعة عربيا، وعبرت مجتازة الحدود العربية والمطارات والسجون والحواجز ونقاط التفتيش الحكومية، ومازالت تتردد في الكثير من المناسبات الوطنية، والقومية، خاصة المقاطع المتعلقة منها بموضوع القضية المركزية، والقدس الشريف، العروس التي استبيحت حرمتها أمام دعاة حمايتها .. ولم تهتز لهم قصبة. وتميزت قصائد النواب بالموقف السياسي المعارض وجمالية البناء الشعري واللغوي، ففازت بقبول جماهيري واسع، ومن مختلف الفئات العمرية والثقافية، من العمال والفلاحين إلى طلبة الجامعات والمتعلمين، من الحضور في المهرجانات العامة ومدرجات الجامعات وقاعات الاحتفالات الى داخل السجون، من بلد الى اخر على طول الوطن العربي وخارجه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق