الإنسان ونزعة الخلود الافتراضي - د. الحسان شهيد - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2020

الإنسان ونزعة الخلود الافتراضي - د. الحسان شهيد

لم يدخر الإنسان جهداً في محاولات الوصول إلى ما يجعل منه كائناً خالداً عبر التاريخ، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير، على النطاق النوعي المنتصر على باقي المكونات الكونية، لكن ذلك انتقل به إلى طمع آخر في خلود كامل وأبدي لذات الإنسان، وهو ما سيحاوله من خلال الطفرات العلمية المتسارعة التي دونها عبر تاريخه الطويل، ويبدو أن محاولاته الدؤوبة التي لم تسعفه في امتلاك خيوط الخلود الأبدي، لم تصرفه عن البحث بين دروب إثبات ذاته عبر الوجود؛ ولو من باب الزمن الافتراضي والممكن الرقمي.

تبقى الإشكالات الفلسفية والوجودية كثيرة ومتناسلة تحوم حول الإنسان في هذا الكون، وما بعده تقض مضاجعه في الحياة، ولا ريب أن سؤال الإنسان بعينه في طبيعته ومعاده يعتبر واحداً من أهم الأسئلة في كل العصور، التي لديها المزيد من التأثير على نظرتنا ومفهومنا لحياتنا في هذا العالم، وللحياة ما بعد الموت، أكثر من أي أسئلة أخرى(1)، وكل ما مر به الإنسان من مراحل تفاعلية في علاقته مع الكون والطبيعة لم يشف غليله الوجودي، ولم يتوقف جشعه الحياتي في طلب المزيد من الإمكانات والقدرات الخاصة التي توصله إلى المطلق الوجودي وغير المنتهي في الحدود، إن طمع الإنسان الأزلي في الأكل من شجرة الخلد لم يتوقف؛ ولم يحبس أنفاسه في طلب المزيد من ذلك المذاق الذي تذوقه.

لذلك؛ فإن التجارب المتواترة والمحاولات الدؤوبة في المجال العلمي والطبي لفك رموز الموت وألغازه المستعصية على الإنسان، باعتباره العقبة الجوهرية في رسم خارطة طريق نحو الخلود والحياة الأبدية، لم تثن الإنسان عن البحث في مداخل أخرى للتنفيس عن هم الخلود لديه، وبموازاة ذلك أطلق العنان للعقل الحوسبي والإلكتروني للكشف عن بعض تلك المداخل الممكنة التي تحافظ على الوجود الإنساني ولو افتراضياً، آلياً لا واقعياً وجودياً.

وقد تمكن خبراء المعلوماتية حتى الآن من تحقيق قدر لا بأس به من نظرية الخلود الرقمي بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي؛ كبديل عن المحاكاة الفعلية لعمل الدماغ البشري، فقد طرحت بضع شركات معلوماتية منتجات تسوق على أنها حل من حلول الحياة الافتراضية الدائمة على شبكة الإنترنت، وأفضل ما تستطيع تلك البرامج عمله هو تحديث حالة الشخص على شبكات التواصل الاجتماعي -مثل «فيسبوك» أو «تويتر»- والتواصل إلى ما لا نهاية مع الأصدقاء والأقارب والأحفاد أثناء الحياة وبعدها(2).

إن هذا المشروع العلمي الافتراضي يشتغل بضخ مجموعة من المعطيات والمعلومات الخاصة بالفرد المعين، وتوجيهه بحسب الأفكار والخيارات والميولات التي يحتفظ بها لإبداء رأي في موضوع ما، أو مشاركة في مسألة معينة تكون لها سوابق في البرمجة الذاتية.

وبشكل عام، ينحصر الخلود الرقمي أو الافتراضي اليوم فيما يقوم به الإنسان من أرشفة ورقمنة إرادية، أو لا شعورية لمعلوماته؛ ثم المشاركة بها سواء على الشبكات الاجتماعية، أو في برنامج خلود افتراضي معين، وهنالك شعور قوي بأنه في يوم من أيام هذا القرن سنتمكن من تنزيل دماغ بشري كامل على شريحة ذاكرة، ونكوّن صداقات جديدة مع من رحلوا(3)!

وقد استهل الإنسان عمله التركيبي بينه وبين الآلة منذ عقود خلت عندما استبدل آلات بمجموعة من الأعضاء وخاصة الجارحة منها، ليتطور تفكيره المهووس بالتطلع إلى البقاء والاستمرار، نحو عوالم أخرى افتراضية تشتغل على الذكاء الإلكتروني، يقول «روبير إيتنجير»، وهو أحد المهتمين بعالم الخلود الافتراضي: لمن يقرأ الصحف ويشاهد التلفزيون يعرف الآن أنه قد شملت الثورة الصناعية الأولى استبدال عضلة الإنسان والحيوان بواسطة آلات، والثورة الصناعية الثانية، والآن بالكاد بدأت، تشتغل على استبدال العقول البشرية بواسطة الآلات، أجهزة الكمبيوتر لديها بالفعل قدرات حل المشكلات بشكل ملحوظ، ويبدو أنها فقط مسألة وقت حتى يتمكنوا من هذا الاعتقاد حقاً(4).

وإلى جانب ذلك أيضاً، هناك تقنية أخرى يدرسها العلماء لتحقيق الخلود بين الجنس البشري عن طريق علوم الكمبيوتر التي تشهد تطوراً كبيراً، تعتمد التقنية على تحميل ذاكرة الإنسان على شريحة ذاكرة تمثل الشخص والوعي الخاص به، ثم زرعها في طفل جنين يعيش بوعي وشخصية فرد آخر، أو خلق حياة موازية افتراضية في عالم الكمبيوتر الذي سوف تتدخل علومه، وفقاً للخبراء والعلماء، في حياة الإنسان البيولوجية؛ مما يجعل الجسم الإنساني مجرد خيار ليس بالضروري خاصة مع وجود إمكانية نقل العقل إلى جسد آخر أو داخل الكمبيوتر، وهذا الأمر سيعتمد على علم مستقبلي يسمى «Cybernetics» أو علم «عمليات التحكم»(5).

ومن أبهر الصور الافتراضية التي تمثلت مسألة الخلود الإنساني، ما عملت عليه ثقافة الصورة وعلميتها من تجسيد أصوات الموتى وحرماته رغم مماتهم بمدة ليس باليسيرة، وقد تطورت الحلول البصرية والصوتية إلى درجة أن خرج علينا أحد الموتى قبل فترة بجسده الافتراضي؛ ليغني أغنية لم يسبق له أن غناها أو ألّفها في حياته؛ وسط دهشة واستهجان وفرح وغضب محبيه في المسرح ولاحقاً على الإنترنت، حيث وصل حد تطور التقنيات الرسومية، ومحاكاة الأصوات البشرية إلى درجة القدرة على استنساخ صورة وصوت الإنسان بصورة مقنعة تماماً(6).

من جهة أخرى؛ لا يمكن تفسير السيولة التقنية المتمثلة في الفيديوهات والأشرطة الحية التي تلازم الإنسان المعاصر، من بداية استهلاله الأول وعبر مراحل عمره توثيقاً وتاريخاً؛ إلا نمطاً من أنماط محاولات التخليد الافتراضي والرقمي للإنسان، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير؛ إذ ما تزال الذاكرة الإنسانية تحتفظ لنا بأشرطة وفيديوهات يزيد عمرها على القرن، وهي تصاحبنا إلى يومنا هذا، منها ما هو توثيق للحروب والمعارك، ومنها ما هو تسجيل للعلاقات الإنسانية والاجتماعية والرياضية.. وغيرها، إن هذا التمثل الإنساني للذاكرة التاريخية الممتدة في الزمان الافتراضي تفسر تفريغ الرغبة الجامحة للإنسان؛ التي لازمته عبر تاريخه في الخلود، والتعبير بصوت عال بأن رغبته تلك لا تقهر، وإن لامس تمثلاتها تلك عبر الصور والانعكاسات الضوئية.

لا أعتقد أن هذه الانطلاقة الجامحة لجشع الإنسان في البحث عن الخلود ستخبو أو ستنكسر، لأنها ما تزال مضمرة في تضاعيف أبحاثه العلمية والتقنية، بل لا نجانب الصواب إذا قلنا: إن تلك الهيمنة العلمية المتزايدة والمتشابكة لا تشكل إلا تعبيراً فصيحاً، وإن كان رمزياً، عن تشوفه إلى تخليد ذاته عبر الوسائط الممكنة، وإن كانت افتراضية على أمل اهتدائه إلى منافذ حقيقية لرسم معالم الخلود الواقعي.

على الرغم من أن العلم يخوض صراعاً مريراً مع الأطماع الإنسانية التي دشنت طريقه في البدء نحو الخلود المطلق الذي لا يبلى، إنما الواقع الذي تتحدث به التجارب العلمية والتاريخية أن هذه الأطماع المتزايدة لا تنفك تصطدم بصخرات العجز من جهة، والمتحققات الواقعية في نصيب الخلود النوعي المطلق دون الخلود الذاتي المطلق من جهة ثانية، لذلك فإن عمليات الإحياء الإنسانية الممكنة وفق التقدير البشري والتمكين الإلهي تقف عند حدود الخلود النوعي الإنساني من جهة، والذاتي النسبي من جهة ثانية، وهذا ما يحيل الإنسان إلى البحث والتفتيش عن الصور الخلودية الأخرى، التي أجاب الدين عن سؤالها الفلسفي والمتمثل في سؤال الخلود الأبدي لما بعد الموت.

 

_______

الهوامش

(1)  To resurrection to immortality; the resurrection our only hope of life after death,William Robert west; westbow press; adivition of Thomas nelson: 2O11; usa;p1

(2) عن الجزيرة نت، معتز باطر،

http://www.aljazeera.net/news/scienceandtechnology/2012/6/20

(3) عن المرجع نفسه.

(4)  The Prospect of Immortality , Robert C. W. Ettinger ;p7

(5) لمزيد من التفصيل يرجى الاطلاع على الرابط الآتي على الشبكة العنكبوتية: تقنيات غريبة تبحث عن سر الخلود،

http://www.mbc.net/ar/programs/action-news/articles

(6) عن معتز باطر، مرجع سابق.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق