التخريب والوجود و التجريب في "شقائق الشيطان"للروائي نعمان الحباسي - مراد الخضراوي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الجمعة، 3 ديسمبر 2021

التخريب والوجود و التجريب في "شقائق الشيطان"للروائي نعمان الحباسي - مراد الخضراوي

مــقــدمة:

رواية شقائق الشيطان وَسْوَسَةُ وَعْي و إغراء إدراك و إنذار بالمُخاتلة و إغواء بتخريب الأنساق المُتوارثة لتجريب كون هائل من الإمكانات الجديدة و الاحتمالات الممكنة قصد خلخلة البُنى كما يفرض ذلك منهج التجريب في أكثر معانيه شموليّة و انتشارا.

فالتجريب في اللغة يعني الخبرة و المعرفة النّاجمتيْن عن الفعل و التراكم  الزّمني إذ يقول اِبن منظور : "جرّب الرجل تجربة اِختبرهُ ... ورجل مُجرّب قد بلى ما عنده، و مُجرب قد عرف الأمُورَ و جرّبها فهو بالفتح مُضرّسُ قد جرّبته الأمور"[1]

أمّا في الأدب فهو مجموع الإحساسات و المشاعر و الأفكار التي تتراكم في نفس الفنان و الأديب ويكون حصيلة اِحتكاكه بمُجتمعه ، و طرائق اِتّصاله به و التّفاعل بيْنَهُمَا وهذه التجربة تكون عُنصرا أساسيّا في شخصيّته الفنيّة التي تبرز في آثاره [2]

و انطلاقا من التعريفين السّالفيْن يُمكن القول إنّ التّجريب يعني أساس مُراكمة الخبرة و المعرفة و التّفكير و المشاعر التي تعتمل عند فنّان دون سواه لتُنتج تجربة فريدة مُتميّزة عمّا سبق. و إذا تحدّثنا عن التفرّد التميّز فإنّ الأمر يقتضي وجُوبا تحطيم مناويل سابقة لتأسيس منوال لاحق يختلف تماما عمّا سبق، منوال يخُط لنفسه مسار خلق يتجرد من الثبات و التنميط و التّقعيد. ومن  ثمّة يُصبح هدف الكتابة التجريبّية هي " التخلّص من التشخيص الوصفي، و الإقرار بأنّ الواقع أضحى زئبقيا يصْعُب مسكُه، و أن الثوابت اِنهارت، و القاعِدَة الإيديُولوجيّة التي كثيرا ما كانت قاعا للنصُوص السّردية العربيّة تلاشت [3].

وإذا أجرينا هذه المقدمات على رواية شقائق الشيطان فإننا نراها حاضرة بوعي في كلّ مفاصلها وردهاتها ومقوماتها اِنطلاقا من  العتبات مُرورًا بالشخصيات والزّمان وصولا إلى البنية السردية  لتنغرس الرّواية في تُربة التجريب وتُربة التجريب و تنبُت  بحثا في سراديب الوجود بطريقة عبثيّة مُخيفة.

1-     إطلالة عامّة على الرّاوية و كاتبها:

رواية شقائق الشيطان تألّفت من 152 صفحة وصدرت سنة 2021 عن دار ميّار للنّشر و التوزيع ، وهي تجربة كتابة روائية أولى للمُبدع الشاب نعمان الحبّاسي الذي ولد بالكاف في 04 جوان 1982 و تخرّج أستاذا للتنشيط الثقافي من بئر الباي بتونس، تدرّج في الإدارة من مدير للمركب الثقافي الصّحبي المسراطي بالكاف إلى مندوب جهوي للشؤون الثقافيّة بالولاية نفسها.

ولم يكتفِ هذا الشاب بالعمل الإداري بل صمّم على رمي حصاة في هرم الإبداع فأصْدَرَ دراسة بعُنوان اِستراتيجية العمل الثقافي بولاية الكاف . و اِمتد نشاطه إلى العمل الجمعياتي و النقابي فناشد عديد الجمعيات و ترأس بعضها وكان عضوا في النقابة الأساسيّة لأعوان و إطارات العمل الثقافي بالكاف لثلاث دورات متتالية.[4]

الرّجل إذا مُتعدّد النشاط و هو ما أكسبه خبرة و تجربة انعكستا على عمله الرّوائي الأوّل. فشائق الشيطان يُمكن تصنيفها باُطمئنان ضمن دائرة الرّواية التجريبيّة. رواية تنطلق أحداها من قرية " طقسُها دفء وخراجها كثير" و أهْلُهَا مُصَابُون بلوثة قراءَة مجنُونة، الكلّ فيها تائِه شَاردٌ مشدوُهٌ لا هدف لهُ سِوَى قِراءة كُــتُب فنون الطبخ و التجميل و الجنس رغم وُجود كُتب قيمّة مثل كتاب فرانسيس فُوكوياما الذي أغضبه إهمال كتابه "نهاية التاريخ " فقرر إفناء القرية وقد فعل في مشهدٍ مُريعٍ لَمْ  ينْجُ منه سِوَى صدِيقيْن كانا يرُاقبان القرية و هُما " قرَوْدَحُ الأفكار" و "طَائِرُ الوقواق" ، ووسَط الفناءِ الفناءِ يُفتحُ لهُمَا طريق السِّراطِ فيُغادِران بحْثا عن الوُجُودِ دَاخِل العدم. و يُقاوم الخيالُ العذابَ للّحاق بهما.

فينتهي بهمَا المطاف إلى اللاّمكان و اللاّزمان فيظنّان تحت مُراقبة الخيال أنّهُما في البعث الآخر، غير أنّهما يُفاجآن بجُثثٍ مُتناثرة يضطران للإصابة منها أكلا أمام وطأة الجوع واِنعدام مصَادر الحياة. عندها يكتسبان بعضا من خصائصها و يتطبعان  ببعض من طبائعها. فمرّة تكون الجثة اِمرأة و أخرى شيْخا وتارة رجل سياسة وطوْرا طفلا مُقاومًا.

ثمّ تتنازع هذه الجثثَ ثنائيةُ المَوْتِ و الحيَاة فتكون لبنة خطاب مطوّل داخل أطوار الرّواية بموضوعات مُختلفة مُتعدّدةٍ كالسياسة والدّين و العولمَة والحبُ والصداقة والجنس والحرّيّة و الإعلام و الثقافة والكِتابة. لتنتهي الرّواية بمُفاجأة هي العود على البدء و كأنّ الأمْرَ حُلْمٌ. فالنهاية هي نفسُها البداية و القرية مُصَابة بلوثة القراءة إذ يقول في خاتمتها :" شيْخُ القرية يُنادي في ذُهول مُنتبه : " لكلّ أجل كتاب " أصواتٌ باعَة الخُضار و الجزّارين والموادِّ الغِذائية و الوسَائل الإلكترونية بانسجام غريب لأوّل مرة تصْدَح " كتاب فنّ الطبْخ " يجعل العالم عوالم مُمِكنة ويقودُك إلى السّعادة الأبديّة قُمصان ولحى ومحراب صُنع من بارود معفّر برائحة الدّم " كتاب عذاب القبر يزيدُ الخراج" المُثقفون يلهثون و يُنادون:" أيها الجمع: " الأسودُ يليق بك أفضل و " اِنتصاب أسود " أحسن"[5].

1-  العتبات: نصّ للتجريب و تجربة للنصّ:

العتباتُ نصّ مواز أو مُصَاحِبٌ أو شبه  أو مُماثل أو مُساوٍ أو مُلائم أو مُجانسٌ [6]، المهمّ أنها " بنيةٌ نصّية مُتضمّنة في النصّ "[7] أولاها النّقاد أهميّة بالغة باعتبارها خطابا مُستقلاّ مُوازيًا مُتكاملا و أداة قرائية فعّالة مُضيفة فاتحة لمغالق مُتعدّدة، فهي عند جيرار جينيت Gérard Genette : " مَا يصْنَعُ به النصُّ من نفسه كتابًا يقترحُ ذاتهُ بهذه الصّفة على قرّائهِ ، وعلى الجمهور عُمُوما ، أي مَا يُحيط بالكتاب من سيَاج أوّلىّ، وعتبات بصّرية و لغويّة"[8] . فهو إذن مُحيط جامِعٌ يشمل عناوين رئيسيّة و عناوين فرعيّة و تداخل العناوين و المُقدّمات و المُقدّمات و الذيول و الصّور و التنبيه و التقديم و كلمات الناشر و التعليقات الخارجيّة و الهوامش و غيرها . وهكذا يُصبح كلّ شيء مكتوب أو مرئي نصُوصا متوازية لها دلالاتها وإضافاتها للنصّ الأصليّ.

و من هذا المنطلق تحفل شقائق الشيطان بنُصوصِ مُتعددّة مُختلفة ، مُتنافرة حينا مُتنافسة أحيانا، مُلمّحة طورا مُصرّحة أطوارا مُنفعلة زمنا مُتعقّلة أزمانا.

إنّها عتباتٌ محكومة بمُفارقات عجيبة خيطها الناظم مُفارقة كُبرى وهي العُنوان الذي حَمَل مُخاتلاتٍ و إغراءاتٍ بالجملة فـ " شقائق الشّيطان " مُركّب إضافيّ اِعتلاه اِسمُ الكاتب  نُعمان الحباسي على الغلاف الخارجي ، ما قد يُفهم منه علاقة بين شقائق الشيطان وشقائق النعمان ، علاقة  سُرعان ما تتنحنى جانبا أمام لوحة الغلاف التي صمّمها الفنّان التونسي عمّار بلغيث، و اِختارها أرضا قاحلة مُشققة يبابًا خرابًا لا أمارة فيها سوى جثّة تنبتُ منها شقيقة نُعمان قُدّت بفيروس كُورونا الذي أربك العالم. تصّور أجبر النّاشر على السّير في النهج ذاته ، فوضع جنس العمل (رواية ) ودار النشر ( ميارة) بَلوْن الدّم و تصّور الخراب الذي طغى على الغلاف فخاتل القارئ و اِستدعى التثبت قبل التأمّل، فبمُجرد الحصُول على التصّور الظّاهر تستوقفُك كائنات أخرى أقل بُروزا و هي طائر في أقصى اليمين أمَامَهُ رجُلٌ في أقصى الشّمال وقِردٌ في أقصى اليمين، و كلاهُما قُبالة شقيقة النعمان ولئن كانت شقائق النّعمان مُرتبطة بأسطورة الدّم والحب عند العرب [9] فإنّها توحي بحَمْلها لثُنائية الدم و الشرّ  في هذه الرّواية.

ومهما يكن فإن لوحة الوجه في شقائق النعمان تغري بالبحث داخل المتن عسى أن يجد القارئ إجابات لأسئلة تُثار مُنذ البدايات. فهل الموت تنبتُ من جدب الأرض؟ أم هل سكن فيروس الموت الأرض مُنذ البدايات؟ هل القرد يرمُز إلى نظريّة النشوء و الارتقاء؟ و ما حكاية الطّائر الذي يفوق الرّجُلَ حَجْمًا ؟ وما علاقة الشيطان بشائق النعمان؟ و أيّ دَوْرٍ للجُمْجُمَة مَصْدَرُ النبتة؟ و كيف سَتُجْمَعُ هذه العَناصِرٍ دَاخل المتن؟ و لمَاذا أراد نعمان الحبّاسي تجريب الغُمُوض و الإرباك؟

إنّها أسئلة تثيرُ الحيرة و الصّدْمَة، و مَا الصّدمَة سِوى دفْع للبحث و تحفيز على القراءة التي ستكون بدورها لُغزا مُقفلا في بداياتها، ففي قفا الكتاب يُفاجَؤ القارئ بتمسك الكاتب بسبيل الإلغاز و التّمويه إذ يقُول: " إن الكتابة وهم و الحديث سرابٌ ، ومَا أحوج الذّات أن تستنفر خيال الظل، وتنعم رُؤوس الوهن، و تسكنُ مضارب الغثيان، و تدغدغ دبابير الحلم، فالنّسق معتّق مُدبّرٌ ، و السّياق مُنمّق مأمُورٌ مخدوع، محدّب حد الإعوجاج ، مُتسلط سليط يحمل غوغائية المنهج و سُفسطائية المكان و عبثيّة الزّمان" [10]

إن ما نخرج به من هذا النصّ مُجرد مَوْقف من الواقع الذي  اِستوجب مَوْقفا من الكتابة بأنساقها المُتعارف عليها ومنهاجها المُتّفق عليها و التي هي في تصوّر صاحبنا مُجرد سكينة زائفة و أفكار واهنة وسياقات ذليلة مَخدوعة مُعْوَجّة و مناهج خاوية صداها مجرّد غوغاء. وما الكتابة عندهُ سوى وَهْم جميل تستنفرُ الخيال الجامِح و تُسَائِلُ الأفكار السّاكنة.

ومَهْمَا يكُن فإن العتبة الأولى تشي بتدبّر مَسَالِك أخرى في الكتابة الرّوائية و تُعْلن عن خطاب آخر نوعيّ مُتطرّف .

فهل سنجد أنفُسنا أمام كتابة مُنفعلة جامِحة؟ أم هل ستكون مُخاتلة واعية بما يقتضيه مَسَارُ التجريب؟

إن مُحاولة الإجابة تقودُنا منذ فتح الكتاب إلى جمُوحٍ من نوعٍ آخر داخل الإهداء الذي كان للأب و الأمّ والزّوجة و الأبناء و الصّديق و الخلان و الهوامش على معنى الترتيب و التّفصيل، و هو ما يشي بوعْي مُخصّص للأحبّة، سُرعَان مَا يتحّول نصًّا مليئًا بالمُخاتلة و مسكُونا بهوسِ التجربة فلئن كان الأب عزوة والأمّ و الزّوجة حبّا و الابن قطعة من روح و الصّديق دَافِعًا وداعمًا فإنهم جميعًا يحْمِلُون مَعَاني مُتعدّدة الأبعاد مُتجدّدة المعَاني فحُبّ الأم و الزّوجة دفق لا ينتهي، وسيلان لا يتوقف فكأنّه بحث مستمر و تجريب لا ينتهي أمّا الابن فهو اِنبعاث و مَا الاِنبعاث سِوى حياة ومَا الحياة سِوى سلسلة من التجارب ، أمّا الصّديق فصدقٌ و الصدقُ زُبدَة تجربَة و أمارة خبرة و عُنوان بقاء.

أمّا الهوامش فقد أهداها نُعمان بقايا المتن. فأيّ بقايا متن هذه التي تُهْدَى لمن لا قيمة لهم؟ هل هو مَوْقف؟ أم دفع نحْوَ بحث المتن؟

المهمّ أنّ السّؤال يتجدّد والإغواء يستمر بوَعْي جامح. وعيٌ نُدركه مَعَ عتبة مفتاح اِختار لها صاحُبها عنوان " الاِنشقاق" ولها صلة مُباشرة بالمتن و الكتابة الرّوائية.

و كأنّه بذلك يُعلن اِنشقاقهُ عن الغلاف و الإهداء و يُقحمُنا في دائرة السّرد يقول:" رواية حالمة واهمة ، مركّبة الصورة تبحث في دواخلنا ،ربّمَا عن نقصنا أو كمالنا، لا منهج و لا أسَالِيب في تطبيقـــها ، إنما هي و حدة مُــــجزّأة مُتكامِلة تنفُرُ من الـــواقع و تستجدي الحلم و الوهم. كلمات عابرةٌ، سيئة التعبير، غِلْظة المَشهد ، سليلُ الوجَعِ[11].

 إن هذا القول يشير إلى بعض إجابة عن الأسئلة المُثارة سلفا فالكتابة الرّوائية بمنطق التجريب عند صاحب الشّقائق اِنحراف عن المنهج و تهديم للأساليب فالمهمّ هو بحث طرائق جديدة لمعالجة مشهد مُوجع وواقع يستدعي القتال و المُقاومة من أجل تغييره، وَوُجودٌ لا سبيل إلى إدراك كُنْهِهِ إلاّ بالكتابة إنّها إذن رواية تجريبيّة: " التجريب فيها بحث، والبحث من خلالها تجريب، اِنتظم من الكتابة في الوُجود، ووجد من الموجود في الكتابة، علّهُ يتمرّدُ عليه ، علّه يَعْدِل عن "كنائس النقد" أو يسكُنُهَا"[12]

ومن هذه الزّاوية بالذّات يتحوّل الكاتب إلى لحظة وعي بمسار الكتابة التجريبية و يستفيق القارئ من صدمته ليُمسك زمام القراءة بوعي العدول  عن " كنائس النقد" [13]على الرّغم من أن صاحبنا شرّع لَهُ سُكناها . ولعلّ يؤكد هذا الوعي هو صُدور الفصول الستّة للرّاوية التي حملت عناوين هي اللّعنة و نُزلاء القفار و العبث و مطامعُ الغفران وشطرنج الحياة و الدّائرة.صُدور تضمّن كلّ منها مقولة من صميم مُقومات السّرد و كُنه الوجود و تجدّد البحث وقداسة المُقاومة، وجميع المقولات المُضمّنة كانت لأعلام لهم وقعهم في الزمن فقد أحضر  إميل سيوران وعنترة بن شدّاد و دستوفسكي و عبد الرحمان مْنيف و غاندي و الإمام الشافعي. و تحلقت جلّها حول الزّمن و المكان و الأحداث و المواجهة و الأسلوب و حتميّة النهايات ممّا جعلها مفاهيم مفاتيح لتتبّع تفاصيل الرّواية، خاصّة و هي المدعُومَة بهوامش داخل المتن لأقطاب الإبداع من مُختلف الأزمان مثل محمُود المسعدي و فُوكوياما و المتنبّي إضافة إلى القرآن الكريم و الحديث الشريف، رُبما لدَرءِ شبهة التكفير.

 و مهمَا يكن من أمر فإن النظر في العتبات يؤكدّ بمَا لا  يدَعُ  مجالا للشك أن شقائق الشيطان رواية تجريبية أدرَك صَاحِبُها طرائقها فبحث فيها  عن المُخاتلة و بحث بها عن وُجودٍ مُرَكّب يلُفّهُ التّعقيدِ.

2-  الشخصيات :

لعلّه من البديهيات التّسليم بكون الشخصيّة واحدة من أعمِدة السّرد بها يبُنى و دُونها يُعْدَم، فهي الدّينامُو الذي يطوّر النصّ و يُنمّي القصّ إذ "لا يُمكن تصّور قصّة بلا أعمال، كما لا يُمكن تصّور أعمال بلا شخصيات"[14]

ومَعَ ذلك لا يُمكن التسليم بكونها قالَبا جاهزا ثابتا نمطيّا، ذلك أنها حملت مفاهيم مُختلفة في الرواية باُختلاف زوايا النظر لدى النقاد و الأدباء أنفسهم رَغم اِتفاقهم على أنها في الأدب كائن ورقيّ تتصف بـ " الخيال الغني للرّوائي، و بمخزونه الثقافي الذي يسمَحُ لهُ أن يُضيفِ و يُبالِغ و يُضخّم في تكوينها وتطوّرها و أن لا يعتبر تلك  الشخصيّة الورقيّة مرآة أو صورة حقيقته لشخصيّة معيّنة في الواقع الإنساني المُحيط لأنها شخصيّة من اِختراع الرّوائي فحسبُ"[15]

فالشخصية الرّوائية إذن ضرورة و مُقوّم و مَقام يُخضعها الكاتب ، لمَا يُريدُه منها ومن وظيفتها و من دورها.

أمّا في الرّواية التجريبيّة الجديدة فهي خاضعة بالكامِل لرُؤية الكاتب الخاصّة و التي يراها تتماشى مع سياق الحديث ودور الشخصيّة في إبراز الحدث بطريقة مُباشرة و غير مُباشرة[16] بل إنها تُصبحُ آليّة لتجريب الرّواية.

و النّاظر في شخصيّات شقائق الشيطان يرى أنها شخصيّات قُدّت على غير العادة من جهة عددها و درجة حُضورها و طبيعتها و طريقتها.

ففي مستوى العدد تحفل الشّقائق بأكثر من ثلاثين شخصية من قبيل " أهل القرية و النساء و الرّجال والباعة و الخيال و الجثث و الأفاعي و التنين إضافة إلى بطليْ الرّواية و هما طائرُ الوقواق و قَرَوْدَحُ الأفَكَارِ.

و على الرّغم من كمّها الهائل مُقارنة بحجم الرّواية التي تشكلت من 152 صفحة فإنّ طريقة حضورها وأدوارها تأخذنا في مسالك التجريب، فهي شخصيات تكادُ تكون بلا مَلامِح تقريبا، إذ تظهرُ للقيام بحدث أو إلقاء خطاب ثمّ تختفي دُون عَوْدةٍ إضافة إلى أنها محكوُمَة بثنائية الموت و الحياة. ثنائية اِمتدّت على كامل الرّواية حسب حاجة السّارد إليها.

و العجيب في هذه الشّخصيات هو أنّها تنتمي إلى حقبات تاريخية مُختلفة اِنطلاقا من بداية التاريخ إلى حدوُ نهايته. كما أنها شخصيات إنسانيّة و حيوانيّة وخُرافّية جمّعتها فنتازيا الكاتب بطريقة أقرب إلى أفلام الخيال العلميّ، ذلك أنها تظهر وتختفي و تموت و تحيا و تنبعث و تفنى بطريقة برقية لم يكلّف السّاردُ نفسهُ عناء تعريفها و رَسْمِ مَلامِحَها – فحتّى القروْدَح و الوقواق قدِّما بطريقة لا تفيد القارئ في التعرّف إليهما رغم أنّهما بطلا الرّواية.

فالوقواق " ذلِك الخبيث القذِرُ نَذيرُ الشّؤم،  ذلِك الطّائر الذي عرّفته البشريّة زمَن وُجُودِها بكوْنِهِ اِنتهازيّا مُستغلا أنانيّا لا رَحَمة في قلبه و لا شفقة، تنتفي منه المَشاعرُ والأحاسيسُ عَكْسَ الإنسان رمْز الخيْر. هو شرّ مُطلق لا خيْر فيه.....[17]  " و القرودَحُ هو " قرد الجيلادا أو بابون القلادة، شرس، قاتم، ضخم، لا طعام له سوى العُشبِ، سبيل تواصله مع مجموعته فن معٌقّدٌ: مزيج من النّغمات والضوضاء، لا يشرد منها أحد. فإذا جَنَّ ليله لجأ إلى المنحدرات الصخرية للاِحتماء"[18].إن هذين الشّخصيتيْن اللتيْن تمثلا عماد الرّواية يحضران بلا ملامح فهُما مُجرّد أفكار مُتداخلة و مواقف مضطربة و أفعال محدُودة، لا سمَات خلْقيِة لهُمَا فهُمَا بالكادِ قرْدٌ و طائر، لا نعرف من أمرَيهِما شيْئا إلا مَا وضع لها من تصور الكاتب أو ما وجِدَ في تعريفِ مُقتضب لكليْهمَا على الشبكة العنكبوتيّة [19]  و كأن السّارد رفض أن يُحمّلهما مَا يقتضيه السّرد وأوْكَلَ مهمّة ذلِك للقارئ.

و الأدْهى من ذلِك هُوَ أنّه رأى في التعريف المُقتضب مُبالغة فتراجع سريعًا وقدمَهُمَا على أنهُمَا نُقطتان يقول : " ولأمرٍ مّا ظهر شيء كالسّراط وما هو بالسّراط، كالطريق وليس طريقًا، كالهاوية غير أنه لا قاع له. على حــافّته الحادّة المُحدّبَة نُقطتان أو شيئان أو نجمان، حـيوانان أو عــــــلامتان أو أمارتان، المهمّ أنّهما اِثنان يَنْسَابَان على السّراط  كالطّوفان، بلا زاد ولا ماءٍ ولا مكان، فرِحَان حزينان، رُوحان جسدان، مُثقفان جاهلان،  حيّان ميّتان، لا يعلم الخيال من أمْرَيْهما شيئًا  إلاّ أنهُما مَوْجودان. " [20]

إنّ هذا التعريف الملييء بالمُتناقضات يُطوّح بالقارئ في متاهات العدم، فكلّما قلّبت النظر و حاولت الظّفر ببعض مَلامح تاهت الفكرة و عمّ الغُموض وخرجت بالخواء . فكيف نعلمُ مَلامِح مَا كان فرحا حزينا مُثقّفا جاهلا في الآن نفسه ؟ إنها النسْبية تتجلّى في أبْهَى مظاهرها و التخييل يُسْتدْعَى في أقصَى  تمظْهراتِه. فحتّى الخيال لا يَعْلَمُ من أمْرِ المخلوقيْن شيْئًا سِوى وجودِهما.

هذا الخيال الذي يَحضرُ بدوره شخصيّة فاعلة كان في الرّواية مُجرد مُتلّقٍ سلَبّي و مُتابع عَجِز يكتفي بالمُراقبة  والمشاهدة بعد أن فقد سطوته أمام الأحداث العجيبة..

وليس هذا فحسْبُ فجميع الشخصيّات تظهرُ مُجرّد إشارات عابرة مهمّتها الوحيدة القيام بحدث أو حمل فكرة أو تدنيس مَقام و تقديس آخر.

إنّها شخصيّات مورّطة مُحتقرة من قبل نعمان الحبّاسي الذي كسر مفهوم الشخصية الرّوائية و أهمّيتها باُعتبارها :" مدار المعاني الإنسانية و محور الأفكار و الآراء العامّة و تُبنى على سجايا و أبعادٍ مُختلفة، تتطور بتطوّر أحداث الرّواية و اِحتكاكها بغيْرها،، و تنمُو رُويْدا رُويدًا بصراعها مع الأحداث..."[21]

فإذا بها تُستدْعَى سَريعًا و تختفي سَريعًا لأن صاحب الشقائق رآها غير مهمة في حدّ ذاتها أمام الخراب والدّمار و عدم المعنى و انتشار النذفاق و عبثية الوُجُودِ وفسادِ السّاسَةِ و تغول المنوال الذي جعل العباد مُجرّد أدوات مُستهلكة اِستهلاكية تفنى في طوفان الحياة دون أن نعلم . وبذلك فما الشخصيات إلاّ تجريب جديد للتّفكير من جهة و للكتابة الرّوائية من جهة أخرى فأمام الخراب لا حلّ سِوَى تجريب التخريب فقد "اِنتهى النصّ ، وبدأ الكتاب"[22]  ومهمَا يكُن فإنّ النصّ النسق والقانون و الثبات عند صاحبنا مُنته مَعْدُومٍ مَأزومٍ لم يَعُد يفي بالحاجة ، أمّا الكتاب و الكتابة فدائمان مُتجدّدان عُنوانُهُمَا تخريب المَوْجود و تجريب الوجود بخلق آخر يَرْفضُ السّائد و يتوق للأفضل، ومن ثمة يُصبح تشكيل تقنيات الرّواية بما في ذلك شخصياتها خاضعة مع شقائق الشيطان لخلق آخر يبحث عن مناويل جديدة لتعويض منوال ترهّل فبلغ من القُبح أشدّهُ ومن الرّداءة أقصاها.

سرمديّة الزّمان بحثٌ في العبث.

إنّ فكرة الزمن في الرّواية فكرة أساسيّة إذ لا تُوجَدُ أحداث خارج دائرته. فهو يبرزُ المظهَرَ الفيزيائي للشّخصيات و يُعطيها أبَعَادَها الواقعيّة و يُدرج الأحــداث في دائرة التاريخ أو الـــرّاهن أو المُستقبل المهمّ أنّه يُعطي للأشياء و الأحداث و الخطاب زمنا مّا.

ففي  التصوّر التقليديّ يُطابقُ  الزّمن من اللّغوي الزّمن الواقعيّ لإيجاد الدّيكور و تأطير الأحداث وتقريب الشخصيّات من الواقع قَصْدَ  مُلاءمَتهِ مَعَ العالم إذ يقول سَعيد نفطين:" الزّمن اللّغوي مُطابق للزمَنِ الواقعيّ، هذا هو رأي النحْوِ التّقليديّ كما يرى اللّسانيون – وعلى أسَاسِ هذا الفهم وظّف الرّوائيون التقليديّون الزّمن...وكان هَدَفُه كما يَرى ألان رُوب غرييه هو زرع الدّيكور و تحديد إطار الحدث، وإبراز المظهر الفيزيقي للشّخصيات، وذلك بقصْدِ مُمَاثلة العالم الواقعي"[23] أمّا التصور الجديد للزّمن فإنّه لا ينُظر إلاّ إلى زمن التلّفظ إذ لا وُجُود لأي تماثل بين الزّمن و الواقع فـ"إذا كان التصّور التقليدي يَرَى أنّ الزّمن هو الشخصيّة الرّئيسية في الرّواية ، ففي الرّواية الجديدة يُمكن القول أنّ [هكذا ] الزّمن يُوجد مَقطوعًا عن زمنيّته إنّه لا يجري، لأنّ الفضاء هُنا يُحطّم الزّمن و الزّمن ينسف الفضاء ، و اللّحظي يُنكرُ الاِستمرار ... فالرّواية الجديدة للزّمن تُنكر أي تماثل أو اِنعكاس للزّمن الواقعي، وليس هُناك أيّ زمن إلا الحاضر (زمن الخطاب ) أمّا اللاّحاضر سواء قبل أو بعد فهو غير مَوْجودٍ"[24]

و يبدو أن نعمان الحبّاسي على وعي بهذا التصّور الجديد للزّمن ذلك أنّه أخرجه من دائرة التأطير و أبعده عن  مماثلة العالم الواقعي و إبراز المظهر الخارجي للشخصيات بل تعمّد تعويمِهُ وجعله سرمديا بلا مَلامِح تُذكر، مُقتنعا بأنّ مُجرد الوعْي به لَعْنةٌ و تخريبٌ للتّجريب في الرّواية و سُقوط في فخ النمطيّة والرّتابة الزّمنيّة و تشويه للزّمن في حدّ ذاته إذ يقول في صَدْر الفصل  الأوّل على لسان إميل سيوران: "الوعيُ بالزّمن مُؤامرة على الزمن "[25]

وهو بهذا يُوجّه القارئ نحو فهم محدُود للزّمن الذي لا معنى لهُ داخل دائرة الواقع و إنّما مَعناه الحقيقيّ هو زمن الخطاب و قُدرته عَلَى نسف الفضاء وقطع تنامي الأحداث ونسقيتها ، وجعلها تدور في مدار دائرة مُغلقة لا خُروج منها إلاّ بالعودة إليها.

ويذهبُ الحبّاسي في تصّوره الزّمنّي للأقصى فيتجاوز كونه مجرّد زمن "لخطيّ حاضر " مُقترن بلحظة التلفّظ إلى اِعتباره سَرْمَدا لا معَنى لَهُ أصلا  و لا جَدْوى من الوعْي به إطلاقا لذلك يتعمّد تعويمَهُ و مُحاولة تغييبه أحْيانا. ففي بداية الفصل الأوّل من الرّواية يعتمد الجمل الاِسمية " الطّقس دفء والخراج كثير"[26] حتّى لا يترك فُرصة اِستجلاء الزّمن من الأفعال التي اِعتبرها النحو التقليدي مُحدّادت زمنيّة ثابتة للماضي و الحاضر و المُستقبل.

ولئن تكرّر اِستعْمَال الجمل الاِسميّة لاسيما في مساحات الخطاب المُتعددة لصِوت الرّاوي فإن الرّواية لم تخلُ من إشارات زمنية من قبيل "في لمح البصر – ما إن أنهى ... زمن الفروج، كأنّه الدّهر.."  إشارات عامّة تُقحِمُ القارئ في الوعي بالتّعتيم و إدراك سَرْمَديّة الزّمن وتشابهه تشابهُ الواقع وتماثله تماثل الدّمار وفنائه فناء الدّهر.

هكذا هو الزّمن في رواية شقائق الشيطان لا يتعدّى زمن التلفّظ، بلا ملامِح ، غير محدّد،  سرمدي مُطلق، بلا دورٍ في تنامي السّرد تقريبا ، غايةُ السّارد منه في نظرنا أمران:

-        الأول تجريب الكتابة الرّوائية خارج دائرة الزّمن و اِستغلال مساحة وصفه لإدراج خطاب طال مَداه في الرّواية و كأنّ لسان حاله يقُول:" إن عَوالم الكتابة وتقنياتها و أساليبها أرحب ممّا قُدِّ لها في التصّور القديم.

-        و الثاني اعتبارُه الوعْيَ بالزّمن الروائي إسْقاطا عَلَى الواقع الآنيّ و تعسف على وظيفة الرّواية المُتمثلَةُ عندهُ في محاولة فهم الرّداءة المُمتدّة في الزّمن و تشابُه الموت وسيطرة العدَمِ بسلطة المنوال.

فالتعميمُ في النهاية جنوح نحْوَ التّقعيد و التّجريد و بناء الفكرة في العقل والخيال. فكرة مفادُها   أن الوْجود عبث لا ينبغي أن تتجاوز فيه الكتابة مُجرّد التجربة. فكلّ ثبات على المنوال الذي خرّب العالم هو ثبات على العدم و خضوع و اِستسلام وجهل.

        I.     عبثُ الوُجُوديّة و جوديّة العبث

يقول جان بُول سارتر:" إنّ الإنسان باُختياره لذاته يَختارُ أيضا لبقيّة النّاس، فليس هُناك أيّ عمل يختارُه الفردُ إلاّ ويسهم في كيْنونته، ويَرْسم صورة للإنسان، كما يحبُ أن يكون، كما أن اِختيار الإنسان لنمط معيّن من الوُجودِ هو تأكيد لقيمة اِختياراته و إعلاءٌ لشأن الإنسانيّة"[27]

في هذا القول نستند الوُجودية إلى ركيزة أولى هي الاختيار ، اِختيار الفعل الذي يرسم كينونة الفرد فترسم بدورها كينونة الإنسان أي كينونة الجماعة . وبذلك يمكن القول إنّ الأساس الثاني للوُجُوديّة هي المَسْؤوليّة و الوعي بالذّات الإنسانيّة التي ينبثق منها الرّكن الثالث و هو الاِلتزام بمفهوم سَارتر.

و إذا أجريْنا هذا المعنى على رواية شقائق الشّيطان وَجَدْنَا لَهُ أكثر من صَدًى في اِلتزام و الاِلتزام مَسؤوليّة فرديّة و جَمَاعيّة، يَصَرْف النظر عن تحقيق الهَدَف.

أمّا العبثية فهي مذهبٌ يُرَكّز اِهتمامَهُ عَلَى التجارب الإنسانية في ظروف لا يستطيع فيها الإنسان اِيجاد هَدَف أصيل في حياته.

و تتجسّد هذه الظّروف بأفعال أو أحداث لا معنى لها أبدًا ، وفي الأدب تعمدُ العبثية إلى اِستخدام أسلوب السّخريّة و الاِستهزاء بالمنطق و التناقض و الجدل في مُحاولة قد تكون يَائسة لدراسة سلوك الإنسان بصَرْف النظر عن الهدف و كأنّنا إزاء مجرّد غَبث فلسفي [28]

وهكذا فالعبثية تجربةٌ وغياب هدف و تناقض وجدل و الوُجوديّة حرّيّة و اِختيار و اِلتزام ومن ثمّة يمكن إيجاد حلقات وصْلٍ بين الوُجوديّة و العبثيّة، لذلك ذهب العديد إلى اِعتبار ألبير كامو  وُجُوديًّا سَاتر.

ولعلّ مَا يهمّ في هذا المقام هو رصْدُ مَا في " شقائق الشيطان من آثار العدمّية و الوُجُوديّة لاسيما أنها رواية التجربة و التجريب باُمتياز.

مراد خضراوي ونعمان حباسي

1-     عبث السّرد فلسفة وُجُود:  

يمكن القول إنّ السّرد لدى نعمان الحبّاسي لُعبة بلا هدف و لا جدوى و لا بوصلة،، هي اِختيار فراغ البدايات وخواء النهايات و اِنعدام السّياقات . فالبنية السّردية دائرية تنطوي على نفسها لا شيء يقودها سِوى وعي كاتبها بالعدم فنُقطة البداية لَوْثةُ قراءة " أصَابت قرية خراجُها كثيرٌ ، لوثةٌ أدّت إلى وُجُودِ جميع أصْناف الكُتب ( الطبخ – الدّين – الجنس ) إلاّ مَا كان مُفيدا على الرّغم من وجود كتُب قيّمة بيْنها لا ينظُر إليها القُرّاء، و خيرُ دليل على ذلك كتاب" نهاية التاريخ " لفرنسيس فُوكوياما [29] الذي أثار غضبه تدنيسُ أنبل فعل أسسّ الوُجود و الأديان و هو فعل القراءة ، ففي البدء كانت الكلمة و في ختام الديانات السّماوية كانت " اِقرأْ"[30].

غضب أدّى إلى قرار خطير وصادم يتمثل في إنهاء الوُجود يقول" دَويّ وصِياح وزقزقةُ طُيورٍ تهتف لأمْرٍ مَّا:" اِقْرأ" وفُوكوياما اُصيب بغضب كبير شامت لأنّ  كِتَابه لَمْ يَجِدْ رواجًا رغم لوثة القراءة العجيبة، فزمْجَرَ وصاح ونادَى ولا من مُجيب، فازداد الغضب. وقويت الشماتة وسط تعالي الصّياح والثّغاء والشهيق والزّفير وأمر جُملتَهُ: " اُخْرُجي بأمْري أنا ربك ". فخرج العُنوان " نهاية التاريخ " مُطيعا، ... فوق الرّبوة حيث مُواجهة الجُموع وعلى مرمىَ فوهة الجبل . تأكد من خلوّ المكان رغم الجمْعِ الكبير، فنفخ في السّحاب والبَحْر، وأمَرَ ريح الزلازل، فاُنطبقت القريةُ على نفسها مَوتًا بُركامِ الحُزن والفرَحِ والبُؤسِ والشوق لآخرة غامِضة جليّةٍ... وتفحّمَت الجثث، وتناثرت الأشلاءُ. واِنتهى النّص، وبدأ الكتاب[31].

إنّ إيراد هذا الشاهد على طُول حيّزه كان من أجل إظهار فكرة العدم عند صَاحِب الشقائق. فالقراءة عدم وفوكاياما عدم و الموت عدم و من ثمّة تُصبحُ رحْلةُ الحياة عَبث وجُودٍ أوْ وُجُود عبث.

ومَا يؤكد هذهِ الفكرة هي خاتمة الرّواية التي عاد فيها السّارد إلى مشهد البداية نفسه. وهكذا تتماثل البدايات و النهايات فتدورُ رَحَى الأحداث على نفسها فرَاغًا خواءً.

أمّا مَا بيْن البداية و النهاية فقيامَة عبثيّة للقروْدَحِ و الوقواق ومُحاكمَة وُجُودّية للفراغ . ذلك أنّ القيامَة رحلة و الرّحلة في " الشقائق" بحث عن الحياة في معناها البدائيّ الغريزي البهيمي. و الغريزة لم تتحقّق سِوى بجثث وجيفٍ تمُوتُ لتُؤكل وتُبعث للسخرية منها  العبث بها.

ومهمّا يكُن فلعُبة البنية بحث عن البنية داخل البنية و تمسّك بالوُجُود في اللاّوُجُود و إسقاط للاّمعنى على اللاّشيء.

أمّا الأحداث فتكادُ تُختزل في حدثٍ واحدٍ و هو بحثُ الرّفيقيْن علَى إصَابة مَا يسدّ الرّمَق من الجُثث يَقُول:  اِبْتَسَتم القروْدَحُ أمَلاً وأمَر رَفيقهُ بالرّحيل بعْدَ أن أنهى حديثهُ، وأصَابَ معهُ ما يَمْلأ البْطن من الجثث المُتناثرة، وعتب على نفسه وعلى صاحبه، وحَاوَرَهُ بلُغة العيْنيْن، منبها أنهما مازالا على ضلالة، ولم يستفيدا من حياة البعث، بل واصلا العبث كأن شيْئا لم يكُن..."[32].

إنّ البحث عمّا يسدّ الرّمق في الفناء والقيامَة حدث  يتكرّر باُستمرار ويمثل العمُود الفقريّ للرّواية وضمان اِستمرارها و اِنفتاحها على ضروب قول أُخرى. فهي خُدْعَة الخيال الذي رافق الصّديقيْن لتثبيت فكرة العدم و العبث بعالم رديء صِراعَاته وهميّة و مَصَالحُه قذرة و إنسانُه مَأزوم فردا و جماعات مهمَا أوْهَمَنا بالتعدّد و التنوّع . و بهذا بلغت السّوداويّة أقصاها و اليأسُ مداه فكان الوُجود اِختيارا الرَصْدِ الرّداءة ومَسْؤوليّة في تكذيب فكرة تقديس الإنسان و اِلتزاما بإثبات عبثيّة الوُجُود في دائرة النظام العالميّ الجديد بجميع أكاذيبه الثقافيّة و الدينيّة و السياسيّة و الفلسفيّة . ممّا جعل الإنسان داخَلَهُ مُجرّد تيه وضياع وضآلة وعدم في رحلة حياة يحكمُها قانون الغاب و يستسلم لها الإنسان الحديث يقول:" أدْركَ القرَوْدَحَ الصّمتُ العَاجِزُ اليَائسُ الذي قطعَهُ الوَقواقُ بإشارتهِ إلى عِناقٍ بيْن شقيقةٍ للنُعِمَان وأُخرى للشيْطان. عناقٌ اِنتهى بالانصهار والحُلُول. فكان الحَاصِلُ فكرة إنسان مُركّب مُتعدّد الأبَعاد مُؤصِّل لتجلّيات الحياةِ[33].

ومهما يكن من أمر فإن السّرد  في الرّواية مجرّد خُدْعَةٍ ظاهرة للعيان لا همّ لهُ إلاّ إثبات عبث الوجُود والعبث بأفق القارِئ ووسيلة لتمرير خطاب طغت عليه لغة الفلسفة وفلسفة اللغة في محاولة يائسة من الكاتب لفهم ما يجري داخل منظومة الموت. وهكذا تتحوّل الرّواية من سَرْدِ حكاية إلى حكاية سَرْدٍ رُبما دُون قصْدٍ، و رُبما بقصْدِ العَبث بكيْنونة أخرى ( نقصدُ الكتابة الرّوائية) اِلتزامًا بفلسفة العبث.

2-     لُغة الخطاب وُجود اللّغة:

اللّغةُ وُجُودٌ وحيَاة وقيامَة ومُشكلة إذ لا وُجُود لشيْء خارجها و دُونها. لذلك قُدّست ونوقشت في جميع المجالات من الأديان إلى الأدب إلى الفلسفة إذ كثيرا ما نُوقشت كسُلطة و كعلاقة بالواقع و العالم الخارجي و السّياسة وحلّلت كبُنى  وتراكيب وعلاقة ذلك بالمنطق و الفكر والمعرفة و المُجتمع و خاصّة مع الدّراسات الأنتروبُولوجية الحديثة[34] ومن سطوة اللّغة تتولّدُ سطوة الخطاب الذي يثل سلطة ماديّة تملك القوّة و القُدرة فهو " كشيء منطوق أو مكتوب يُثيرُ التخوّف تُجاه هذا الوُجود العابر المُنتّجه إلى الاِمّحاء دون شك، لكن خلال مدّة لا نتحكم نحن فيها . التخوّف من أن نحُسَّ بأن تحت هذه الحركة سلطا و أخطارا لا نتصورها جيدا، التخوّف من توقّع وجُود صِراعات و اِنتصارات و جُروحٍ و عبُوديات عبر الكثير من الكلمات ، التي قلص اِستعمالها مُنذ زمن طويل، من فضاضتها"[35]

فاللغة إذن سلطة خطاب و الخطاب سطوة لُغة تُعبّر و تؤثر و تُقنع و تفحم و تثير السّؤال و تقدّم الأجوبة و تترصد الواقع وتثير مُشكلاته و تقترح حلُولَهُ .

و الناظر في شقائق الشيطان يُدرُك أن اللّغة سلطة تتربّع على عَرْش الرّواية و تكتسب توهّجها من تجويد الحرف و تنميق العبارة و تكثيف الأمَارة الملمحّة غير المُصرّحة . فهي لغة اِختارت من التراكيب أكثرها تعقيدا ومن المعجم أكثره حُوشيّة. فقدّمت بذاتها ولذاتها خطابا مُختلفا عن واقع العصر ومقوّمات الحداثة في جانبها الغنيّ بالوضوح وكانت خطابا يقطع مع التصوّر اللّساني السّوسيري ( نسبة إلى دي سوسير ) الذي يرى أنها مجرّد أداة تواصل و أضحت هدفا في حدّ ذاتها.  لتكون الرّواية كائنا لغويّا ضدّ فجاجة الواقع و اِنهيار المنظومات يقول: " مُداعبات عميقة للبشريّة في تعايشها ، و اِستطرادات لم تعرف لها اللغة لُغة لوصفها، هل هذا جُزء من التضادّ أم بحث في علم حفريّات الأخلاق أم هو صِيغ وصور لفّن جديد؟ أم هي عمليّة اِستنساخ رَعوانيّة رديئة جُزافيه اِعتمدها  الإنسان للتخلص من كلّ مورثاته؟ أم لعلّنا نحن نتعاظم أو نعظّم تحليل الإنسان ولم نُدرك حالة الوعي التي وصل إليها؟ [36]

إن اللغة تستحيل جملة من "التقابلات الاجتماعية "بمنطلق بير بورديو، ذلك  أنها تخفي صرَاعًا بين واقع مليء بالعجز و الهزائم و الخيبات و أمل يتطلّع نحو الحلم و الانتصارات و تحقيق الأفضل.

ومن هنا تصبح اللّغة وُجُودًا يَلْتزم بِرَصْدِ الواقع و يختار طريقة تشريحه و يتحرّر من أنماط فهْمِه المُتعارف عليها . فكان الخطاب ملقيا للقارئ في يمّ السؤال و الدّهشة و الصّدمة تُجاه مَوْضوعات مُتعددة كالحُب  و الصّداقة و الجنس و الدّين و الثقافة و السياسية والفلسفة  الإعلام و التعليم .... مَوْضوعَات مُقدّسَةٌ و ضروريّة وحياتيّة شوّهَهَا منوال اُلْعَوْلَمَة كتجلٍّ أعلى اللّيبرالّية التي قدّمت نفْسهَا حلاّ نهائيا يُنهي صِراع البدائل الإيديولوجية و من ثمة يُنهي التّاريخ بمنطق فوكُوياما الذي تسّبب في القيامة داخل الرّواية. فيجد الرّاوي نفسه مُجبرا على إعادة صياغة الوُجود بتفكيك شيفراته و مُحاولة تعرية المنوال الذي يقول عن أصحابه على لسان القرودح: "يتزلفون و ينحنُون ، يتواكلون و يتملّقون ، يُرابضون حتّى يتمكّنُون ، نشيدهم مُتَأَوْطِن ، وعزفهم مُسَرْطن ، أنامل كتابتهم مدنّسة ، مفتعلة ، ترقد في مضارب الغدر و شِبَاك الإيهام،  سُرعان ما يتحوّلُون ، سُرعان ما يتناسقون ، ما أعظم عُهرهم و ما أذلّ ذلّهم ، ما أْصعب مِراسهم فهم متمرّسون على المقابعة و التّملق... نيرانهم باردة حرقتها في تجميدنا... اِعتادوا الاِصطفاف وراء أطماعهم، فما فتئوا ينصبون شراك تذيّلهم حتّى يحقّقوا مآربهم... فرَشت لهم الأنظمة أغطية الولاء و حصن الدّفاع ، أردفتهم السياسات الهشّة و حملتهم على ظهورها مستنقعات اللوبيّات[37] .

إن هذا الخطاب قمّة غضب على  الرّضوخ و العُبودية، ذلك أن صاحبَهُ اِختار بعناية عباراته واِلتزام باللاّ حياد في مُواجهة الخانعين قوسمهم بـ " التزلّف و الانحناء و التواكل و التملّق واِدعاء الوطنية و التشابه الجامد و الاصطفاف الأعمى..." من أجل تقديم فروض الولاء والطاعة بغاية السّقوط في المُستنقع بمحض إرادة العبيد . فهل ثمّة سَوْداويّة و أزمة وجود أبلغ من نضال الإنسان الحديث من أجل الرّداءة؟

ومهمَا يكنُ فإنّ اللّغة في رواية شقائق الشيطان خطاب باحث في جوهر الإنسان الحديث دُون جَدْوى، فنحسن العبودية مُطبق و مخالب " النظام المحتوم " تنهش من يخرج عنهُ . ومن ثمّة يُصبح الوُجُود الفعلّي مُجردّ عدم و محض  عيثٍ لا طائل من ورائه . فيتوسّلُ الرّاوي وُجود َ اللّغة عَسَاهُ يجدُ فيه بعض منال.

الخاتمة :

إن شقائق الشيطان رواية تجريبيّة ديدنها كسْرُ نموذج الكتابة الرّوائية و الاعتداء الصّارخ على مُقوّماتها و التوجيه نحو فهم مَفادُه أن الوُجود الحقّ يكمن في التهديم و إعادة البناء و أن الكتابة التجريبيّة إفناءٌ من أجل إعادة خلق جديد ينتقم من وُجودِ عبثيّ قمّته الرّداءة و قيمته الفراغ الممسُوخ ، وجودٌ اِستحال مَعَهُ الإنسان عبدا النظام أطبق فكيه على كل شيء و اِستدرج الجميع إلى هوّته السّحيقة فأصبحت جميعُ المجالات الثقافيّة و السياسيّة و الفكريّة و العقائديّة مُجرّد أدوات تخدمُه رغم ترهّله . فسُدّت السّبل و لم يبق للحياة حياة سِوى اللّغة أداة للكتابة و اِلتزمًا بالتجريب و اِختيارا للتخريب وحرّية للتجريب. فكانت الرّواية إذن مزيجا لذيذا بين التّجريبيّة و الوجوديّة و العبثية من خلال كسر كلّ وسائل السّرد و التأسيس لسطوة خطاب رأى صاحبه أنّ الكتابة الرّوائية تسمحُ به 

الهوامش


[1]  ابن منظور : لسان العرب، دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي، تصحيح محمّد عبد الوهاب ومحمّد الصادق العبيدي مادّة

( ج. ر. ب)

[2]  للتوسع في مفهوم التجريب في الأدب اُنظر جبّور عبد النور: المعجم الأدبي دار العلم للملايين، بيروت – لبنان، ط/1 1979 ص 58.

[3] الباردي (محمد ): التجريب و إنهيار الثوابت ، مجلة الآداب العدد 5/ 6 آذار لبنان 97 ص26 .

[4]  أخذنا المعلومات الواردة أعلاه من سيرة ذاتية أمّدنا بها الكاتب في 16 جوان 2021

[5]  الحباسي ( نعمان ) : شقائق الشيطان، دار ميارة للنشر و التوزيع، تونس 2021  ص 152 .

[6]  اِختلفت ترجمة لفظة ( para texte  ) عند النقاد العرب فقد ترجمها محمّد بنيس بالنصّ الموازي و مختار حسني بالتوازي النصّي و محمد الهادي المطوي بموازي النص و سعيد يقطين بالمناص و عبد العزيز شبيل بالمحاذ

[7]  بلعابد ( عبد الحق ) عتبات ( جيرار جينيت: من النصّ إلى المناص) الدار العربية للعلوم ناشرون  ، ص 20 .

[8]  بنيس ( محمّد) الشعر العربي الحديث ( بنيته و ابدالاتها )، دار تُوبقال للنشر، الدّار البضاء- المغرب، ط / 3 2001ص 188

[9] حمزة العقرباوي: شقائق النعمان ... أسطورة الدّم و الحب، de ultrapal. Ultrasawt 19 Mars 2017

[10]  الحبّاسي ( نعمان ) : شقائق الشيطان ، ميّارة للنشر و التوزيع، تونس 2021، الغلاف الخارجي

[11]  نفسه: ص 7.

[12] نفسه: ص 7.

[13]  كنائس النقد عنوان كتاب صدر عن الهيئة المصريّة العامّة للكتاب سنة 2017 للأستاذ الجامعي و الناقد التّونسي عبد الدّائم السلامي

[14]  حمّاش ( جويدة) : بناء الشخصيّة في حكاية '"عبدو و الجمِاجم " لمُصطفى الفاسي ( مُقاربة في السّيميائيات )، منشورات الأوراس ، الجزائر . د. ت ص 96.

[15] يُوسف ( آمنة): تقنيات السرد في النظريّة و التطبيق ، دار الجوار للنشر و التوزيع، دمشق – سوريا ط/2 1997، ص 26

[16]  سعيدة ( فتحيّة ): التجريب في الرواية العربيّة: رواية " حلم ورديّ فاتح اللّون " لمسلون هادي – أنموذجا – مُذكرة لنيل شهادة الماجستير، جامعة محمد بوضياف المسيلة - الجزائر ، السّنة الجامعية 2017-2018 ص 16.

[17]  الحبّاسي ( نعمان): شقائق الشيطان ص ص 18 و 19

[18]  نفسه ص 19.

[19]    https://fr.m0wikipedia.org

[20] الحباسي (نعمان)، مرجع سابق ص ص 15 و 16.

[21]   هلال ( محمد غنيمي ): النقد الأدبي الحديث، دار العودة – بيروت ، د . ت ص 526.

[22]  الحبّاسي ( نعمان ): مرجع سابق ، ص 15.

[23] يقطين ( سعيد ) تحليل الخطاب الرّوائي ( الزّمن – السّرد – التبئير ) المركز الثقافي العربي، ط/1  1989 ص 67.

[24] نفسه ص 68

[25]  نفسه ص 60

[26]  الحباسي ( نعمان) : شقائق الشيطان، مرجع سابق ص 9.

[27]  سارتر ( جان بول) : الوُجودية مذهب إنساني ، مطبعة الدّار المصريّة، القاهرة – مصر د. ت ص ص 16-17-18 بتصرّف.

[28]  اُنظر : تمّام طعمة: العبثية في أدب ألبيركامو http://sortor.com 28 مارس 2019

[29]  نهاية التاريخ و الإنسان الأخير: كتاب الأمريكي فرانسيس فوكوياما كُتب سنة 1982 ونشر سنة 1989.

[30]  سورة العلق: الآية (1)

[31]  الحبّاسي ( نعمان): شقائق الشيطان ، مرجع سابق ص 14.

[32]  نفسه ص 106

[33]  نفسه ص 99.

[34]  (فيركلو) ، نورمان: الخطاب بوصفه مُمَارسَةِ اِجتماعية، ترجمة رشاد عبد القادر ، مجلة الكرمل، العدد 64 صيف 2000. ص 155.

[35]  ( بوردو ) بيار: بين كارل  ماركس و ماكس فيبير: مفهوم الخطاب في فلسفة مشيل فوكو، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة – مصر 2000 ص 74.

[36]  (نعمان) الحباسي ... نفسه ص 33

[37]  نفسه ص ص 97 و 98 بتصرف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق