الأصول الدينية للعقل عند دوركايم - د. حسن احجيج - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الجمعة، 17 ديسمبر 2021

الأصول الدينية للعقل عند دوركايم - د. حسن احجيج

عندما كان دوركايم يسعى إلى استخدام علم الاجتماع كوسيلة لبناء نوع من الأخلاق الوضعية، وجد نفسه أمام واقع لا يمكن القفز عليه، وهو الواقع الذي يضع الظاهرة الدينية في قلب البشرية.

وقد ظهرت المسألة "الدينية" عند دوركايم سنة 1888 في دراسته للطوطم والطابو والزوج مقدس/ دنيوي في مقال نشره بمجلة الحولية السوسيولوجية يحمل عنوان "تحريم زنا المحارم وأصوله". غير أن بداية الاهتمام الفعلي بالدين بما هو كذلك دشنها مقال "تعريف الظواهر الدينية" الذي ظهر في المجلة نفسها عاما بعد ذلك، أي سنة 1899. ثم نشر في ذات المجلة مقال "في الطوطمية" (1901-1902)، ومقال "درس في أصول الحياة الدينية" في مجلة الفلسفة سنة 1907.

إلا أن كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية الذي صدر سنة 1912 يقترح تصورا جديدا للدين وللقوى الاجتماعية التي ينتجها.ويعتبر ذلك الكتاب ذروة المسار النظري لدوركايم في تحليله للظاهرة الدينية.

كان دوركايم يرمي من وراء كتابة هذا المؤلف إلى تفسير نشأة المجتمع وما يجعلها ممكنة من جهة، ومن جهة أخرى إلى تسليط الضوء على دور المجتمع في انبثاق الفكر المنطقي. ويراهن دوركايم في كتابه هذا على الدين كمفتاح لحل هاتين الإشكاليتين. إذ يؤكد دوركايم على أن التمثلات الدينية تمثلات جمعية، وأن جوهر الديني هو التمييز القائم بين المقدس والدنيوي. فهذا التمييز يوجد في كل ديانات العالم؛ كما أن المقدس، هذا الكائن الجمعي واللاشخصي والمفارق، يمثل المجتمع نفسه. وعلى الصعيد الثاني، يبرهن دوركايم على أن المجتمع هو مصدر الأفكار الأساسية الضرورية لكل فكر منطقي. ذلك أن الحياة الاجتماعية هب التي تخول للفرج اكتساب مقولات الفهم، كالزمن والمكان والعدد، الخ، والمفاهيم الضرورية للفكر المنطقي. 

يهدف هذا المقال إلى تقديم التصور البديل الذي اقترحه دوركايم لشروط إمكان المعرفة بهدف تصحيح ما اعتبره أخطاء المذهبين التجريبي والقبلي في طرحهما لنشأة الأفكار الأساسية للفهم البشري. كما يسعى المقال من وراء هذا الهدف إلى بيان علاقة الدين بنشأة المجتمع كما طورها دوركايم في كتابه الأشكال الأولية للحياة الدينية على وجه الخصوص.

لذلك، يبدأ مقالنا بمقطع يتناول علاقة الديني بالاجتماعي في سوسيولوجيا دوركايم وكيف دشن علم اجتماع الدين لخطة نشأة علم الاجتماع نفسه. وفي المقطع الثاني، سنعرض لتصور كل من المذهب التجريبي والمذهب القبلي لنشأة المعرفة البشرية، وخصوصا مقولات الفكر في علاقتها بالفطرة والتجربة. يلي ذلك نقد دوركايم لهذين التصورين وعرض مقاربته السوسيوتجريبية لانبثاق مقولات الفهم من خلال الممارسات الجماعية للطقوس الطوطمية. وسنختم المقال بمقطع أخير نلخص فيه نظرية دوركايم في نشأة مقولة "السببية" لدى القبائل الأسترالية الطوطمية باعتبار أن تلك المقولة حظيت أكثر من غيرها بدراسة عميقة من قبل دوركايم.

الاجتماعي والديني في العلم الاجتماعي الدوركايمي

يندرج اهتمام دوركايم المبكر بالظاهرة الدينية في سياق نشأة علم الاجتماع ذاته. ذلك أن الصرح المعقد لكل النظريات السوسيولوجية للآباء المؤسسين قام على مساءلة أصل الواقع الاجتماعي ووضعه الأنطولوجي، وهي المسألة التي جعلت الدين منطلقا لها. وفي هذا السياق، يشير شمويل تريغانو إلى أن السوسيولوجيا، التي نشأت في القرن التاسع عشر في خضم التغييرات التي أحدثتها الثورة الصناعية والثورة العلمية والثورة السياسية وما صاحبها من انتشار العلمنة والتحديث، كرست معظم جهودها في بدايتها لتحليل الظاهرة الدينية (Trigano, 2001: 9). وبذلك يكون علم الاجتماع الديني هو ما دشن لحظة ولادة النظرية السوسيولوجية ذاتها.

في هذا السياق انبثقت سوسيولوجيا إميل دوركايم (1858-1917) الوفية للتقليد الفرنسي، وخصوصا الفلسفة الديكارتية المنشغلة بالبحث عن الأصول. ذلك أن دوركايم عكف على الإجابة على أسئلة متعلقة بنفس الموضوع: كيف نشأ المجتمع؟ ما هي القوانين التي تتحكم في الحياة الجماعية؟ كيف أمكن لعدد كبير من البشر، الذين يتمتع كل فرد منهم بحياة داخلية خاصة، أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا بنفس الطريقة، بمعنى ما مصدر "أساليب الفعل والإحساس والفكر" الجماعية؟ (Trigano, 2001 : 10).

للإجابة على هذه التساؤلات، تبنى دوركايم منهجا تجريبيا، حاول من خلاله استخلاص تلك الإجابات من دراسات ميدانية، تناولت بالأساس الحياة الدينية لما يسمى بالمجتمعات "البدائية"، وخصوصا الممارسات الطقوسية الطوطمية. وينطلق دوركايم، في اختياراته النظرية والمنهجية، من أطروحة أساسية يكون المجتمع بمقتضاها متسما بطابع القداسة. وتتكثف هذه الأطروحة في المنطوق الدوركايمي الشهير "الله هو المجتمع" الذي استنتجه بالخصوص من دراسته للديانة الطوطمية.

في كتابه الأشكال الأولية للحياة الدينية، يعبر دوركايم عن قناعته بأن الدين يشكل الرحم الذي ولدت فيه الحضارة ويعتبر الشكل البارز للحياة الاجتماعية. فالدين في رأي دوركايم "يتضمن في ذاته منذ البداية كل العناصر التي أدت إلى انبثاق مختلف تمظهرات الحياة الاجتماعية. إذ انحدر العلم والشعر من الأساطير والحكايات؛ وانحدرت الفنون التشكيلية من الزخارف الدينية وحفلات القداس؛ وخرج القانون والأخلاق من رحم الممارسة الطقوسية. فلا أحد يستطيع فهم تصورنا للعالم، وتصوراتنا الفلسفية للروح والخلود والحياة إن لم يكن على دراية بالمعتقدات الدينية التي تمثل صورها الأولية"[1].

وللبرهنة على صدق هذه الأطروحة، انطلق دوركايم من التأكيد على أن الميزة الجوهرية للدين هي التمييز بين المقدس والدنيوي. يقول دوركايم: "إن جميع أشكال الإيمان الديني المعروفة، بسيطة كانت أو معقدة، تحمل خاصية مشتركة: إنها تقتضي تنظيم الأمور الواقعية أو المثالية التي يتصورها الإنسان في نظامين متقابلين يطلق عليهما عادة اسمين مختلفين، هما المقدس والدنيوي"(Durkheim, [1912] 1968: 50).وخلاصة هذا التعريف للدين هو تشديد دوركايم على فكرة أنه حيثما يوجد "مقدس" مختلف عن "الدنيوي" يوجد دين، وبالتالي فإن الطوطمية تشكل دينا حقيقيا، معارضا بذلك أطروحة فرايزرFrazer  التي لا تعتبر الطوطمية دينا لأنها تفتقد إلى كائن روحي وإلى صلاة، وبالتاليفهي في رأيه مجرد عدة سحرية.

لايمكن فصل "الاجتماعي" عن "الديني" في علم الاجتماع الدوركايمي، كما يتجلى ذلك بوضوح في مقاربته للطوطمية. فالطوطم هو في آن واحد رمز للإله ورمز للعشيرة. ذلك أن "إله العشيرة، الذي هو مبدأ الطوطمية، لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير العشيرة نفسها، لكنه مجسد في أقنوم (رمز) ومقدم للمخيلات في شكل أنواع محسوسة من النبات والحيوان التي تستخدم كطواطم". هكذا إذن فإن المجتمع، في رأي دوركايم، "يتوفر على كل شيء يسمح له بأن يثير في العقول، بفضل الفعل الذي يمارسه عليها، الإحساس بالألوهية، نظرا لأن المجتمع يمثل بالنسبة لأعضائه ما يمثله الإله بالنسبة للمؤمنين به".

شكلت الظاهرة الدينية منذ الكتابات الأولى لدوركايم مفتاح إشكالية هذا الأخير المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية، لدرجة إثارة نقد أحد تلامذته، ج. لابي J.Lapie الذي كتب إلى سيلستان بوغلي C.Bougléرسالة يقول فيها إن دوركايم "يفسر كل شيء في هذا الوقت بواسطة الدين: تحريم الزواج بين الأقارب مسألة دينية، الألم والمعاناة لهما منشأ ديني، كل شيء ديني..."[2]

علاوة على ذلك، فإن علم الاجتماع كما تصوره دوركايم يرتبط بعلم اجتماع المعرفة مادام المجتمع البشري يتعرف على ذاته ويعرف العالم انطلاقا من الدين (Trigano, 2001: 19). إذ أن الموضوع الأساسي في علم الاجتماع الديني لدى دوركايم هو إثبات كون العملية التي تنتج تمثل المجتمع لذاته لا تنفصل عن عملية تكونه ذاتها. فقد كان دوركايم، كما أشرت إلى ذلك من قبل، منشغلا بفهم كيف يمكن لعدد كبير ومتنوع من الأفراد أن ينتجوا تمثلا مشتركا يوحدهم. ولذلك طرح أسئلة، ظل بعضها بلا إجابة، حول المضمون التجريبي للتمثلات الجماعية. وقد أدى به سعيه إلى العثور على إجابة صادقة تجريبيا على تلك الأسئلة إلى الانطلاق من ظاهرتين غير منفصلتين ليبين كيف ينشأ المجتمع: أولا، ظاهرة الممارسات الملموسة التي تربط الأفراد فيما بينهم، مانحة واقعا ملموسا لعلاقة التضامن التي توحدهم؛ ثانيا ظاهرة الطبيعة الاجتماعية للمعرفة (Ogien,2007: 137). 

في كتابة الأشكال الاجتماعية للفكر، يشير ألبير أوجيان (Ogien, 2007: 25)إلى أن هناك تصورين للاجتماعي لدى دوركايم: تصور مفارق يمنح لضمير جمعي مستخرج من المجتمع سلطةَ ممارسةِ الإكراه على السلوكات الفردية، وتصور محايث يكمن أصلا في المعرفة بما أنها تعبر عن الأشكال الأولية للالتزام الاجتماعي. ويعني ذلك أن دوركايم يعتقد أن شروط المعرفة لا تفلت من البحث التجريبي.

هذا البحث التجريبي في شروط إمكان المعرفة يجد ميدانه المفضل في الممارسات الدينية الطوطمية. وقد فصَّل دوركايم الكلام في هذا الموضوع في كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1912، والذي شكل منطلق ما أصبح يعرف في الأدبيات السوسيولوجية بـ "دوركايم الثاني" الذي كرس أعماله التي تبتدئ بكتاب الأشكال الأولية وما بعدها، لبناء نظرية سوسيولوجية للمعرفة والذي أضحى موضوعا لإعادة تقييم معاصرة يمكن أن نلاحظ فيها ما يمكن أن نطلق عليه "أعراض فتغنشتاين" (Ogien (2009) : 19). 

المقولات في المذهبين التجريبي والقبلي

تجدر الإشارة في البداية، على خلاف الرأي الشائع، إلى أن المقولات لم تعالج على يد الفلاسفة القبليين فقط، بل حظيت بنفس القدر من الاهتمام من قبل الفلاسفة التجريبيين أيضا. والاختلاف بين هؤلاء وأولئك يتمثل في تصورهم لمصدر هذه المقولات.

أي دارس للفلسفة لم يسمع عن مقولات أرسطو، أي هذه "الأصناف المتنوعة" التي أراد هذا الفيلسوف أن يرجع إليها كل مواضيع فكرنا، بحيث تشمل المقولة الأولى كل الجواهر بينما تشمل المقولات التسع الأخرى كل الأعراض"؟(Arnauld & Nicole 1965: 49). وكلمة "مقولة" (catégorie) مشتقة من مصدر القول، وهي ترجمة للفظ اليوناني categoria التي تعني "العلاقة". وقد لاحظ أرسطو أن المعرفة ترتكز على عشرة أسس، أطلق عليها اسم "المقولات"، وهي: الجوهر substance ، الكم quantité، الكيفQualité، الإضافة relation، المكان lieu، الزمان temps، الوضع position، الملكية possession، الانفعال action ، الفعل passion.

مع ديفيد هيوم D.Hume بلغ الهجوم على المذهب العقلي أوجه في القرن الثامن عشر، وخصوصا في كتابيه الأساسيين رسالة في الطبيعة البشرية (1739-1740)  وبحث في الفهم البشري (1748) اللذين يهدفان إلى تحليل أصول أفكارنا. ومعلوم أن الفلاسفة التجريبيين كانوا يستخدمون مفهوم "الفكرة" بالمعنى الذي يعزوه له ديكارت، أي المحتوى الذهني الذي ندركه مباشرة (كوتنغهام، 1997: 90).

انطلق هيوم من قبوله الموقف التجريبي لجون لوك الذي بمقتضاه تكون أفكارنا مستقاة من التجربة. ويقسم هيوم محتويات الذهن إلى المعطيات الحسية التي يتم إدراكها مباشرة، ويطلق عليها "الانطباعات"، من جهة؛ والأفكار أو المعاني التي تمثل نسخا باهتة للانطباعات من جهة أخرى. ويقصد هيوم بالانطباع "كل مدركاتنا الحسية حين نسمع أو نرى أو نشعر أو نحب أو نكره أو نرغب أو نريد".فالانطباعات إذن ظواهر أو حالات وجدانية أولية، ولذلك فإنها تمثل إدراكاتنا القوية والواضحة. أما الأفكار (المعاني)، فإنها تمثل صورا للانطباعات، وبالتالي فهي أقل منها وضوحا وقوة. فالأفكار لا تختلف عن الانطباعات إلا في ضعف "القوة والحيوية التي تقع بهما على الذهن".

لا ينكر هيوم وجود العقل أو الذهن الذي يمارس الانطباعات والأفكار ويمتلكها ويتذكرها ويقيمها. غير أن العقل في رأيه "مجموعة من الإدراكات الحسية المختلفة التي توحدت معا بشتى الارتباطات... عندما أتغلغل فيما أسميه "نفسي" أعثر دائما على إدراك حسي معين أو آخر، كالحرارة أو البرودة، الضوء أو الظل، الحب أو البغضاء، الألم أو اللذة. ولا أستطيع أبدا أن ألاحظ شيئا غير الإدراك الحسي". وإذا كان هيوم يعتبر "علاقات المفاهيم" مجرد تحصيلات حاصل (مثل: ضِعْف اثنين هو أربعة)، فإنه يرجع مجموع "قضايا الواقع" إلى التجربة، ويعتبر من المستحيل الوصول إليها بمحاكمات قبلية. إن الاستدلال في البرهنات العقلية التي تكشف عن العلاقات بين الأفكار أو المفاهيم استدلال برهاني استنباطي لا يحتاج إلى التجربة. أما الاستدلال في البرهنات العقلية التي تكشف عن العلاقات بين أمور الواقع، فإنه استدلال استقرائي يقوم على التجربة كما هو الحال في العلوم الطبيعية التي ترتكز على العلاقة بين السبب والنتيجة.

وبالمقابل، يشدد المذهب العقلي على أن مصدر المعرفة البشرية هو العقل، وعلى أن هذا الأخير مسلح بمجموعة من الأفكار الفطرية التي تساعده على تنظيم الإدراكات الحسية. وهذا سبب تسمية هذا المذهب بالقبلية (Apriorisme). وبالفعل، كان إيمانويل كانطKant، شأنه شأنلايبتسLeibniz، يصر على أنه يجب استخدام القدرة الفاعلة للعقل في معالجة وفهم أبسط إحساس. فالعقل يلامس العالم وهو مسلح قبليا بما يسميه كانط "مفهوماتالعقل". ومقاربة العالم دون الاعتماد على هذه المفهومات ليست "تجريبا"، بل هي مجرد إدراك حسي مباشر يطلق عليه كانط "الحدس". صحيح أن كانط لا ينكر كون الانطباعات الحسية ضرورية لمنح محتوى لتجربتنا، وبالتالي لا ينكر أن التجريبيين محقون في هذه النقطة. إذ بدون معطيات حسية، لن يكون للعقل شيء يفكر فيه، وبالتالي سيكون فارغا من المحتوى.

غير أن كانط يطرح سؤالا جوهريا في كتابه نقد العقل الخالص: ما مصدر "المفهومات" التي بواسطتها يختبر العقل العالم؟ يجيب كانط إن كل المفهومات مستقاة من اثني عشرة "مقولة" أساسية، كمقولتي الجوهر والسببية. ويؤكد كانط أن هذه المقولات هي أفكار قبلية، أي فطرية وسابقة على التجربة، وتعتبر الشروط المسبقة الضرورية لقدرتنا على اختبار العالم. وإذا كان العالم سيبدو لنا على النحو الذي بدابه، أي إذا كنا سنفهم العالم بطريقة ما، فيجب أن يتطابق فهمنا مع هذه المقولات: "إن الصحة الموضوعية للمقولات بوصفها مفهومات قبلية تقوم على أنه بمقدار ما يتعلق الأمر بشكل الفكر، لا يمكن أن تصبح التجربة ممكنة إلا من خلالها. وهي ترتبط بالضرورة والقبلية والتجربة، بسبب أنه لا يمكن التفكير في أي موضوع من التجربة إلا بواسطة تلك المقولات".

استدلال دوركايم على الطابع الاجتماعي للمقولات

يؤكد دوركايم على أن علم الاجتماع المعرفة كما يتصوره هو نفسه يقوم، أفضل من البدائل الفلسفية (التجريبية والقبلية)، بتعليل عمومية وكونية وضرورة وصدق مقولات الفكر التي تشكل الشرط الأساسي لإمكان المعرفة. وللبرهنة على صدق دعواه، يعمد دوركايم إلى نقد كل من المذهبين التجريبي والقبلي وبيان تهافتهما في تفسير صدق تلك المقولات. ذلك أنهما، وفقا لنقد دوركايم، يفسران نشأة المعرفة بالعلاقة القائمة بين الفرد والواقع المادي، وبالتالي فإنهما لا يقدمان أي برهان تجريبي لعملية المعرفة. ولذلك يؤكد دوركايم على أن علم الاجتماع يبقى وحده القادر عل تجاوز المأزقين من خلال المحاججة على أن المعرفة ظاهرة اجتماعية.

فمن جهة أولى، ينطلق المذهب القبلي من مسلمة أن المقولات لا يمكنها أن تكون مشتقة من التجربة، بل إنها تمثل شرطا "سابقا منطقيا" لها. والظاهر أن دوركايم يعتبر الشرط السابق منطقيا مكافئا للشرط السابق سيكولوجيا أو للشرط الفطري. غير أن المذهب القبلي، حسب دوركايم، لا يفسر خصائص مقولات الفهم، وهيالعمومية والكونية والضرورة. فالقبليون لا يفسرون شيئا عندما يقولون إن قدرة العقل على تجاوز التجربة وعلى إدراك العلاقات بين الأشياء ملازمة لطبيعة العقل البشري نفسه. بينما كان أولى بهم، تبعا لدوركايم، أن يفسروا لنا من أين يستمد العقل هذه القدرة. وبعبارة أخرى، إذا كانت الفلسفة القبلية تعتبر المقولات "معطيات عديدة بسيطة، غير قابلة للاختزال، ومحايثة للعقل البشري بفضل تكوينه الخاص" (Durkheim, [1912] 1968 :18) فإنها لم توضح مصدر هذه المقولات السابقة على التجربة. فما زال من الضروري تفسير "القدرة المدهشة" للعقل على تقديمِ شكلٍ لتجربتنا. لذلك ظل دوركايم غير مقتنع بالبرهان المتعالي القائل إن المقولات تجعل التجربة ممكنة: فقد اقترح القبليون أن العقل البشري فاض عن العقل الإلهي. ومن البديهي أن يستبعد دوركايم هذا الحل لأنه لا يمكن التحقق منه تجريبيا. علاوة على ذلك، يعلن دوركايم أنه حل خاطئ، مبرهنا على ذلك بكون ثبات العقل الإلهي وعدم قابليته للتغيير يتعارضان مع تنوع أشكال المقولات عبر الزمان والمكانDurkheim, [1912] 1968:20-21)). لذا يبقى السؤال مطروحا: كيف يمكن لخطاطات مفهومية (مقولات الفهم) أن تفرض شكلا على الواقع وتترك في نفس الوقت لهذا الواقع خاصيته كموضوع معرفي؟(Ogien, 2007 : 24).

ومن جهة ثانية، يعلن دوركايم عن رفضه للمقاربة التجريبية الكلاسيكية لشروط إمكان المعرفة لكونها تفشل في تفسير كونية وعمومية وضرورة المقولات. يعتقد دوركايم أن المقولات هي "الأرضية المشتركة التي تلتقي فيها جميع العقول" (Durkheim, [1912] 1968: 19). وعليه، فإن الطابع الكوني لمقولة معينة تفسره خاصيتها ككيان يمكن،مبدئيا على الأقل، إيصاله وتبليغه لكل العقول (Durkheim, [1912] 1968: 619 n1). أما الطابع الضروري للمقولات، فإنه يتمظهر في كوننا عاجزين عن تفاديها. والحال أن المذهب التجريبي، حسب دوركايم، يفشل في تحليل هذه الخصائص الخاصة بالمقولات نظرا لأنه يقيم هذه الأخيرة على انطباعات حسية وإحساسات تتميز بخصائص نقيضة تماما: فالإحساسات خاصة وخصوصية، وهو ما يتعارض مع العام والكوني. كما أن الحرية التي نتمتع بها فيما يتعلق بإحساساتنا تتعارض مع طابعها الضروري. هكذا إذن، إذا لم تكن كونية المقولات وضرورتها سوى مظهرين خادعين لا يطابقان شيئا في الأشياء ذاتها، كما يتضح من خلال معالجة المذهب التجريبي الكلاسيكي لها، فإن هذا الأخير يعجز عن تفسير كيف يتمكن مجموعة من الأفراد عبر مجموعة من الأحاسيس من إدراك موضوع ما بطريقة متطابقة (23: 2007Ogien,).

كان هدف دوركايم من توضيح فشل التجريبية والقبلية في تفسير نشأة المعرفة البشرية هو تقديم تصور بديل لهما يتمتع بالصدق التجريبي ومبرهن عليه تجريبيا. وارتأى أن قبول فكرة الأصل الاجتماعي للأفكار الأساسية التي تقوم عليها المعرفة سيفسر كل الصعوبات التي اعترضت البدائل الفلسفية الكلاسيكية. هذا الاقتراح الدوركايمي يرتكز على الفكرة التي سبق لدوركايم أن عرضها في مقال "التمثلات الفردية والتمثلات الجماعية" (1892): لا يمكن تفسير ظاهرة المفاهيم المشتركة، التي يسميها دوركايم "التمثلات الجماعية" على أساس الفعل الفردي حتى وإن كان معتبرا في سياق جماعي.

صحيح أن دوركايم احتفظ باعتقاد الفلسفة القبلية بأن معرفتها تتكون من نوعين مختلفين من العناصر: تجريبية ومفهومية، وأنها تصدر عن مصدرين مختلفين، وأنه لا يمكن اختزالهما في بعضها البعض. غير أن علم اجتماع المعرفة الدوركايمي يرفض أن يكون لهذه العناصر مصدر فردي كما هو الحال عند كانط، بل يذهب أبعد من ذلك عندما يماهي بين المقولات والتمثلات الجماعية. فالأفكار العامة والمفاهيم، بما فيها المقولات، تعتبر في رأي دوركايم تمثلات جماعية تهم علم الاجتماع، بينما تمثل التمثلات الفردية موضوع علم النفس.ويعتبر دوركايم التمثلات الفردية أفكارا خاصة مستمدة من الإحساسات، في حين تنشأ التمثلات الجماعية من "انصهار" التمثلات الفردية أثناء فترات "الانفعال الجماعي".

يتحدث دوركايم عن أربع مصطلحات دون أن يتحمل عناء تحديد الاختلافات بينها: التمثلات الجماعية، والمفاهيم، ومفاهيم التصنيف، والمقولات (Pickering, 1993 : 52).كما يلاحظ أن دوركايم يستخدم في مناسبات عديدة لفظ "مفاهيم" في مقابل عبارة "المفاهيم المجردة". ومن الواضح أنه يستخدم لفظ "مفاهيم" بمعنى "التمثلات" ويستبدلهما بعضهما ببعض (Durkheim, [1912] 1968: 621). إن المفاهيم، حسب دوركايم، تشبه من حيث خصائصها التمثلات الجمعية: فهي خارج الزمن، وخارج الفرد، وقادرة على أن تكون كونية، وهي من إنتاج المجتمع، وأعلى من المفاهيم الفردية (Durkheim, [1912] 1968: 625, 437). أما مفاهيم التصنيف، فإنها نوع خاص من المفاهيم أو التمثلات الجمعية، وتستخدم لتصنيف التجربة الفردية والاجتماعية.

يسلط وليامز بايكرينغ (Pickering, 1993) الضوء على مفهوم المقولة لدى دوركايم من خلال التمييز بين أهداف التفسير في كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية وأهداف التفسير في مقال "في بعض الأشكال البدائية للتصنيف". ويلاحظ بايكرينغ أن كتاب الأشكال الأولية هو وحده الذي يعالج المقولات بمعناها الكانطي. بينما يعالج المقال مفاهيم التصنيف فقط، كمفاهيم تصنيف اتجاهات المكان والوحدات الزمنية. ليست مفاهيم التصنيف هي المقولات، وإنما تعني الطرق التي تتمثل بها مختلف المجتمعات مقولات الزمان والمكان والصنف. وعندما يقول دوركايم إن المقولات ليس لها شكل محدد وإنما يتغير شكلها عبر الزمان وتبعا للمكان، فإنه يعني بذلك تلك الطرق في تمثل المقولات.

وإذا كان بايكرينغ يستحضر مقولات الزمن والمكان والصنف، فإن وارين شماوس (Schmaus, 1998 : 180)يؤكد على أن تمييز بايكرينغ بين المفاهيم المشتركة كونيا والطرق المختلفة في تمثل هذه المفاهيم المشتركة يمكن أن يعمم ليشمل كل المقولات. فمقولة السببية مثلا يتم تمثلها أيضا بطرق مختلفة في أماكن وأزمنة مختلفة. ويرى دوركايم أنه في المجتمع الواحد تتنوع تمثلات مفهوم السببية بتنوع العوامل الاجتماعية، كالمستوى التعليمي، ومن تخصص علمي إلى آخر(Durkheim, [1912] 1968: 625, 527). هكذا، فإن مقولات الزمن والمكان والصنف والسببية توجد في كل المجتمعات، لكن هذه المفاهيم تكون موضوع تمثلات بطرق مختلفة.

يقول دوركايم في مقدمة كتابه الأشكال الأولية للحياة الدينية: "تقدم دراسة الظاهرة الدينية أداة لإحياء المشكلة التي عولجت إلى اليوم على يد الفلاسفة فقط" (Durkheim, [1912] 1968: 12). ذلك أن "أهم الأفكار البشرية، كالزمان والمكان والجنس والنوع والقوة والسببية والشخص، وباختصار هذه الأفكار التي أطلق عليها الفلاسفة اسم المقولات وتتحكم في النشاط العقلي، تطورت في قلب الدين" (Durkheim, [1912] 1968: 35). وفي ذات السياق،  يؤكد روبين هورتون على أن دوركايم يعتبر اللحظة التي ولد فيها الدين هي اللحظة التي ظهرت فيها إمكانية كل أشكال الفكر العليا (Horton, 1973 : 260). وبالفعل، "إن أعظم خدمة قدمها الدين للفكر هي أنه أسس أول تمثل لما يمكن أن تكون عليه علاقات القرابة بين الأشياء" (Durkheim, [1912] 1968: 340). مثلما أن الدين قادر على "تحرير العقل من خضوعه للمظاهر الملموسة، وبالتالي تعليمه كيف يتحكم فيها والربط بين الأشياء التي تفرق بينها الحواس"(Durkheim, [1912] 1968: 340).

إن الاستدلال الحاسم في علم اجتماع المعرفة لدى دوركايم، والمتعلق بالبناء الاجتماعي للمقولات، يتمثل في كون القوى التي تختبرها الجماعة أثناء "الفوران الجماعي" لا يمكن للأفراد المشاركين في هذا الفوران أن يؤولونها إلا كقوى فاعلة خلف الأشياء الملاحظة نفسها ومتحكمة كليا في كوسمولوجيتهم. ذلك أن الفعل المتبادل بين الضمائر الفردية ينشط في التجربة الدينية الجماعية لدرجة أنها تتحول إلى تمثلات جماعية تمارس، بعد نشأتها، إكراها على إدراكات الأفراد أثناء حياتهم اليومية. (Joas, 1984 : 568).

يرى دوركايم أن الطبيعة البشرية هي جمع بين الكائن الفردي والكائن الاجتماعي. هذه الثنائية توازي التمييز الذي تقيمه كل الأديان بين كيانين مختلفين، هما الجسد والروح، اللحم والنفس. وتجد هذه الثنائية تعبيرات فلسفية لها لدى ديكارت وكانط اللذين عارضا بين الإحساسات (sensations) والمفاهيم (concepts)، أو بين الشهوات الحسية والسلوكات الأخلاقية (Jones, 2005: 81). ويعتقد دوركايم أن مفاهيمنا "تمارس عنفا" على إحساساتنا، وأن سلوكاتنا الأخلاقية تزعج غرائزنا وميولاتنا. ويرجع ذلك، حسب دوركايم، إلى أننا "لا نستطيع أبدا أن نكون في وفاق تام مع ذاوتنا، بحيث لا يمكن لنا أن نتبع واحدة من طبيعتينا إلا وعانت الأخرى. وبالتالي فإننا مجبرين على أن نعيش دائما منقسمين ضد ذواتنا" (Durkheim,[1912] 1968: 8).

ولا يخفى أن هذه الثنائية الديكارتية هي ترجمة للتمييز بين المقدس والدنيوي، وهو تمييز يتوقف كله على أسباب اجتماعية. فالمجتمع لا يمكن أن يوجد دون أن يتسرب إلى العقول الفردية، ولا يمكنه أن يتسرب إلى العقول الفردية دون أن يرفع الفرد فوق ذاته. فالفرد يوجد سجين "وجودين": الأول ينحدر من كياننا الفيزيقي ويعبر عنه وينعكس في الإحساسات والشهوات التي يسعى الفرد إلى تحقيقها؛ وينحدر الثاني من المجتمع  ويعبر عنه، ويؤدي إلى انبثاق العقل والفعل الأخلاقي اللذين بدونهما لن يكون المجتمع ممكنا. ويمكن أن نعبر استعاريا على ذلك بالقول: إن الإله (أي المجتمع) يتوقف وجوده على البشر (أي الأفراد)، مثلما يعتمد البشر (الأفراد) على الإله (المجتمع) فيما يخص أفضل صفاتهم؛ وعندما يتم الاعتراف بذلك، يستنتج دوركايم، فإن مهمة علم الاجتماع الدين تصبح واضحة: تفسير طبيعة وأصل القوى التي تقوم عليها الأفعال الاجتماعية(Jones, 2005: 80). هاهنا تظهر الصعوبة التي اعترضت دوركايم في تفسير العلاقة السببية بين الضمائر الفردية والضمير الجمعي. وقد انتابت دوركايم شكوك في إمكانية البرهنة على وجود هذه العلاقة السببية بين الضمائر الفردية والضمير الجمعي التي يعتبرها نوعين من الكائنات المتمايزة من حيث الطبيعة (Ogien, 2007 :23). إذ كيف "يتسرب" المجتمع إلى العقول الفردية؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب فهم مصدر القدرة على تشكيل تمثلات متطابقة مع الآخرين، أي يجب فهم كيفية نشأة الفكر المنطقي.

في مقال "علم الاجتماع الديني ونظرية المعرفة" (Durkheim, 1909 : 757-759)، يؤكد دوركايم بدون تحفظ على "الدور الأساسي" الذي تلعبه بعض التمثلات الجماعية، أي المقولات. وتتميز هذه الأخيرة بكونها أسمى المفاهيم لأنها "تتحكم في كل المفاهيم الأخرى وتتجاوزها... إنها تتحكم في النشاط المنطقي برمته" (Durkheim, 1913 : 37). فمن وجهة نظر تراتبية، يعتقد دوركايم أن وظيفة المقولات تتمثل في "التحكم في مجموع المفاهيم الأخرى واحتوائها؛ إنها قوالب دائمة للحياة العقلية" (Durkheim,[1912] 1968: 628). وبخصوص مصدرها، حاول دوركايم البرهنة على أن المقولات لا تنتج من العقول الفردية ولا تُفسَّرُ بها، بل إنها "نتيجة للتاريخ وللفعل الجماعي" (Durkheim, 1909 : 758).

كان دوركايم يرغب في أن يوضح أن محتويات المعرفة ليست وحدها مبينة اجتماعيا، وإنما أشكال فعل المعرفة ذاتها أيضا: فمقولات المكان والزمان والقوة والسببية والشخص والجنس يكتسبها الفرد انطلاقا من مشاركته في الحياة الاجتماعية: "شيد البدائيون المجال العالمي على منوال المجال الاجتماعي، بمعنى على منوال المجال الذي يشغله المجتمع وكما يتمثله المجتمع؛ ويعبر الزمان على إيقاع الحياة الاجتماعية؛ ولم تكن فكرة الجنس (genre) في البداية سوى مظهر آخر لفكرة الجماعة البشرية؛ كما استخدمت القوة الجماعية وفعاليتها كنموذج أصلي للقوة والسببية، الخ." (Durkheim, [1909-1912] 1969 : 677-681).

يقدم دوركايم هذا التشاكل بين التنظيم الاجتماعي والبنية المنطقية اعتمادا على أمثلة مستمدة من الدراسات الاتنولوجية حول القبائل الأسترالية "البدائية".وانطلق خصوصا من الممارسات الطقوسية في الديانات الطوطمية التي يعتبرها أحد أشكال الدين الأكثر أولية وبدائية.هذا المتن الاتنولوجي سمح لدوركايم بطرح نظريته حول انبثاق الاجتماعي (الأخلاقي) من الديني، استنادا إلى مسلمته الأساسية المتمثلة في رفض التفسير الفرداني الخاص بالفلسفات الكلاسيكية (المذهبين التجريبي والقبلي) وبالفلسفة البرغماتية. ذلك أن تفسير الصدق التجريبي للمعرفة، التي تمثل شكلا آخر من الاجتماعي، لا يمكن أن يحصل إلا من خلال الجمعي، وخصوصا من خلال التجربة المباشرة للقوة الأخلاقية التي يولدها الانجاز الجماعي للممارسات الاجتماعية ذات الطبيعة الطقوسية.

في دراسة رائدة حول نظرية المعرفة عند دوركايم (Rawls,1996; 2001)، عكفت عالمة الاجتماع الأمريكية آن وورفيلد راولس على دراسة نظرية المعرفة عند دوركايم التي اعتبرتها الاستدلال الذي أهمله شراحه. وأقامت راولس مقاربتها على مفهوم "الممارسة"، وخصوصا على تعريف دوركايم للظاهرة الاجتماعية كمجموعة من الأصوات والحركات المسموعة والمرئية. وبالفعل، تشير راولس إلى أن دوركايم تساءل في كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية عن المصدر الذي تنبثق منه المعتقدات، وأنه برهن على أن التمثلات والمعتقدات يسببها الانجاز الجماعي للممارسات الطقوسية. تكتب راولس: "بالنسبة لدوركايم، ليست الممارسات الاجتماعية مجردة وليست مجرد منتوج للأفكار والتمثلات والمعتقدات. بل إن الأفكار والتمثلات والمعتقدات ظواهر ثانوية. إن المجتمع بالنسبة لدوركايم مكون أساسا وقبل كل شيء من ممارسات منجزة بشكل ملموس، تنبثق منها قوى اجتماعية حقيقية يختبرها المشاركون بشكل جماعي. إن بعض هذه القوى الاجتماعية تنتج أفكارا أساسية يستشعرها جميع المشاركين في الطقس، وهي الأفكار التي يسميها دوركايم مقولات الفهم".

إن لجوء دوركايم إلى فكرة "الممارسات الطقوسية"، وخصوصا الطقوس المحاكاتية les rites mimétiquesالتي تمارس بشكل جماعي في الديانات الطوطمية الأسترالية، يمَكِّن من ضمان صدق تجريبي لعلم اجتماع المعرفة. وإذا كان من غير المقبول تفسير المعرفة بنوع من السببية المادية، فقد ابتكر دوركايم نوعا آخر من السببية، وهي السببية الأخلاقية التي تنبثق من الانفعالات التي يولدها في كل فرد مشارك التحقيق المشترك للنشاط الجماعي.

يطلق دوركايم في الأشكال الأولية مصطلحات عديدة على الانفعالات: "أحاسيس" feelings، "مشاعر"sentiments ، "انطباعات حسية" sensations، "إثارة ذهنية "، انطباعات impressions.ويدرج كل هذه الكلمات في الكلمة émotions (انفعال). ويتحدث دوركايم على انفعالات نوعية مثل "السعادة" و"الراحة" و"التبعية" و"الاحترام" التي يؤكد أنها تطابق فكرتي الوحدة الأخلاقية والقوة الأخلاقية (Rawls, 2001 : 8).

يفسر دوركايم انبثاق الانفعالات بأطروحة "خاصية القدرة التوليدية للدين" التي استعارها من الفلسفة البرجماتية (Jones, 2005: 93). وقد استلهم وليام جيمس نفسه هذه الظاهرة التفسيرية من عالم النفس الفرنسي شارل فيري (Ch. Féré) الذي كان مهتما بمفعول المثيرات الحسية على النشاط العضلي، ورتب سلسلات من التجارب التي استخدم فيها جهاز " قياس القوة" لقياس قوة الانقباضات العضلية ليد شخص تحت تأثير العديد من المثيرات. ويشير جيمس في كتابه مبادئ علم النفس (1890) إلى أن أقصى قوة تبقى ثابتة نسبيا من يوم لآخر؛ لكن إذا تلقى الشخص إثارة حسية (انطباعا حسيا)، كالحرارة والبرودة والوخز والحكة والإثارة الكهربائية للبشرة، فإن قوة الانقباض تزداد عادة. وأصبح مفعول التقوية هذا يحمل اسم "توليد القوة" (Jones, 2005: 93).

فصَّل وليام جيمس الحديث عن هذه الخاصية التي تجعل من الدين "قوة توليدية" في كتابة الضروب المتنوعة للتجربة الدينية (1902)، وضرب لها مثالا بحالة سان أوغسطين الشاب كمثال كلاسيكي لما سماه "تنافر الشخصية" أو "الذات المنقسمة"[3].

في هذا السياق، طرح دوركايم تصوره للدين كظاهرة لها قدرة على إنتاح الانفعالات أو الانطباعات، مثل "انطباعات الابتهاج، والسلم الداخلي، والسكينة، والحماسة التي تعتبر بالنسبة للمؤمن دليلا تجريبيا على صدق معتقداته"(Durkheim,[1912] 1968: 4). وقد دافع دوركايم على فكرة "خاصيةالقدرة التوليدية للدين" (وفكرة "ازدواجية الطبيعة البشرية") في اللقاء الذي نظمته الجمعية الفرنسية للفلسفة بتاريخ 4 فبراير 1913. فالإنسان الذي يكون أمام ربه، يقول دوركايم، "يكون لديه إيمان بالحياة، وحماسة للحياة، وهي حماسة لا يجربها في الأوقات العادية. حيث تكون لديه قوة أكبر لمواجهة مشاق الوجود، ويكون قادرا على القيام بأمور عظيمة ويبرهن عليها بسلوكه"(Durkheim,[1912] 1968: 5). لكن هذه النتائج لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كان الإله حاضرا في ذهنه "بواسطة طاقة كافية للتمثل الذي يعبر عليها حتى تكون فعالة".هكذا، يجب أن تكون الآلهة "محط إيمان، ومحط إيمان مع ثقة جماعية"، بحيث "لا يمكن لثقة كل فرد على حدة أن تكون قوية إلا إذا كانت مشتركة بين الجميع" (Durkheim,[1912] 1968: 6).

إن أوضح مثال عن واقعة المكوِّن الانفعالي للمقولات، في رأي دوركايم، هما مفهوما المقدس والدنيوي اللذين يلفهما عنصر انفعالي. بل يذهب دوركايم إلى حد الحسم في أنه "ربما ليس هناك تمثل جماعي غير هذياني بمعنى من المعاني" (Durkheim,[1912] 1968: 325).

هذه الانفعالات التي يشعر بها المشاركون في الطقس الجماعي تنتج لديهم شعورا بقوة مجهولة ولا شخصية، توجد داخل كل فرد منهم دون أن تنصهر به: "يمكن القول إنها الإله الذي تعبده كل ديانة طوطمية. إلا أنه إله لا شخصي، لا اسم له، محايث للعالم، منتشر في عدد لامتناه من الأشياء" (Durkheim,[1912] 1968: 269). لكن يجب ألا نسيء تقدير هذا التصور ونعتبره مجرد تعبير استعاري. بل بالعكس، إن هذه القوة واقعية: "إن كل الكائنات التي تتوحد في نفس المبدأ الطوطمي تعتبر نفسها بذلك وكأنها مرتبطة أخلاقيا بعضها بعضا؛ إذ تشعر بأن عليها إزاء الآخرين مجموعة من واجبات المساعدة والتطوع..." (Durkheim,[1912] 1968: 271). وتتمثل "واقعية" هذه القوة الأخلاقية في قدرتها الخلاقة للإلهي وتضمنها لمبدأ الفعالية، سواء الفعالية الطقوسية أو السحرية، كما وضح ذلك هوبيرHubert وموسMauss من خلال فكرة "المانا". إن هذه القوة، في رأي دوركايم، هي المجتمع ذاته. هكذا، فإن الإله والمجتمع يولدان لدى الأفراد إحساسا بتبعية كلية ودائمة. إنهما مبدآن مفارقان، مختلطان، يمارسان الإكراه والسلطة الأخلاقية.

إن القوة الدينية، الجماعية والمجهولة، يمثلها الطوطم الذي يعتبر في رأي دوركايم شعارا. إنه مصدر المقدس وحامله. فالقوى الدينية، حسب دوركايم، قوى أخلاقية تفعل في كل فرد. فهي "تترجم ليس فقط الطريقة التي بها تؤثر الأشياء المادية على حواسنا، بل تترجم أيضا الطريقة التي يؤثر بها الضمير الجمعي على الضمائر الفردية" (Durkheim,[1912] 1968: 319). وباختصار، يمكن أن نستخلص مع دوركايم أن هذه القوة الأخلاقية هي المجتمع. هكذا فإن الدين يشكل نسقا من التمثلات يمكّن الأفراد من بناء صورة عن المجتمع، ومن أن يقيموا مع هذا الأخير علاقات منظمة ومضبوطة.

إذا أردنا صياغة هذا التصور الحلزوني والمعقد للدين كمصدر للمعرفة وللمجتمع في عبارة بيانية واضحة، يمكن القول إن الأفراد يجتمعون في البداية ليكونوا "تجمعا" agrégation  يتميز بالعرضية والحيوانية. وعندما ينخرط هؤلاء الأفراد مجموعين في طقس طوطمي، فإنهم يتحولون إلى مشترك (communauté) من خلال انبثاق مجموعة من الانفعالات والمشاعر المشتركة كحالات داخلية، مثل مشاعر التجاور والتشابه والتلاؤم والتنافر والوحدة الأخلاقية والقوة الأخلاقية.هذه الأخلاق المنبثقة في شكل رغبات وتوقعات ومعتقدات تؤدي إلى ولادة المقولات الأساسية الضرورية لنشأة أي معرفة جماعية، مثل مبادئ المنطق ومبادئ العقلانية وقواعد اللغة التي تتبلور في "أساليب للفعل والتفكير والإحساس" القائمة على مؤسسات اجتماعية ومنطقية.

هكذا يعتقد دوركايم أنه صحح أخطاء المقاربات الفلسفية الكلاسيكية لنشأة المعرفة المتمثلة أساسا في عجزها عن تقديم أي برهان تجريبي على صدق تلك المعرفة نظرا لأنها استندت في برهناتها على علاقة الفرد بالعالم المادي. ويكون دوركايم بذلك قد وضع أهم لبنة في صرح علم الاجتماع كعلم تجريبي طبيعي يستجيب لمطلب السببية كمطلب علمي ضروري لكل تخصص معرفي يريد أن يكون علما.

البيبليوغرافيا

Arnauld A. et Nicole P., (1965), La logique ou l’art de penser, Paris, Presses Universitaires de Presses.

Durkheim E. & Mauss M., «De quelques formes primitives de classification (contribution à l’étude des représentations collectives) » L’année Sociologique n° 6 (1903), in Marcel Mauss, Œuvres, t. II, éd. de Minuit, 1974, p. 13-89.

Durkheim E., (1909), «Sociologie religieuse et théorie de la connaissance », Revue de Métaphysique et de morale, VII, pp. 733-758. Texte repris comme introduction pour Les formes élémentaires de la vie religieuse, coll. «Quadrige », Presses Universitaires de Presses.

Durkheim E., (1912) (1968), Les formes élémentaires de la vie religieuse, Paris, coll. «Quadrige », Presses Universitaires de Presses.

Durkheim E., (1913), «Révision : Lévy-Bruhl- Les fonctions mentales dans les sociétés inférieures », Année Sociologique, XII, pp. 33-37.

Durkheim E., [1909-1912] (1969), Recension de Lévy-Bruhl, Les fonctions mentales dans les sociétés inférieures, Paris, Presses Universitaires de Presses.

Horton R., «Lévy-Bruhl, Durkheim and the Scientific Revolution », in R. Horton & R. Finnigan (eds.), Modes of Thought: Essays on Thinking in Western and Non-western Societies, London: Faber.

James, W. [1902] (1958), The Varieties of Religious Experience : A Study in Human Nature, New York : New American Library.

Joas H., (1984), «Durkheim et le pragmatisme. La psychologie de la conscience et la constitution sociale des catégories », Revue Française de Sociologie, Vol. 25, n° 4, pp. 560-581.

Jones R. A., (2005), «Practices and Presuppositions : Some Questions about Durkheim and Les Formes élémentaires de la vie religieuse, in J. C. Alexander & P. Smith (eds), The Cambridge Compagnon to Durkheim, Cambridge, Cambridge University Press.

LaCapra D., (2001), Emile Durkheim. Sociologist and Philosopher, Aurora, Colorado : The Davies Group, Second Ed.

Ogien A., (2007), Les formes sociales de la pensée. La sociologie après Wittgenstein, Paris, Armand colin, coll. «Individu et Société».

Ogien A., (2007), Les règles de la pratique sociologique, Paris, coll. «Pratiques théoriques», Presses Universitaires de Presses.

Pickering W. S. F., (1993), «The Origins of Conceptual Thinking in Durkheim: Social or Religious ?», in  S. Turner (ed.), Emile Durkheim. Sociologist and Moralist, London and New York, Routledge.

Rawls A. W., (2001), «Durkheim’s Treatment of Practice. Concrete Practice vs Representations as the Foundation of Reason», Journal of Classical Sociology, Vol. 1(1), pp. 33-68.

Rawls A. W., (1996), «Durkheim's Epistemology: The Neglected Argument», The American Journal of Sociology,Vol. 102, No. 2 (Sep., 1996), pp. 430-482.

Schmaus W., (1998), «Durkheim on the Causes and Functions of the Categories », in N. J. Allen, W. S. F. Pickering & W. Watts Miller (eds.), On Durkheim’s Elementary Forms of Religious Life, London and New York: Routledge.

Trigano S., (2001), Qu’est-ce que la religion? La transcendance des sociologiques, Paris, Flammarion.

كوتنغهام ج. (1997)، العقلانية فلسفة متجددة، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، حلب، مركز الإنماء الحضاري.



[1] نقلا عن:

LaCapra D., (2001), Emile Durkheim. Sociologist and Philosopher, Aurora, Colorado : The Davies Group, Second Ed., p. 236.

[2]مذكور في:

Bernard, P. (éd (1979), «les durkheimiens», Revue Française de Sociologie, vol 20, n° 1, p.39.

[3]- يتمثل هذا الانقسام حسب وليام جيمس في التعارضات التي ميزت حياة سان أوغسطين: أمه المسيحية وأبوه الوثني، رحلاته الجسدية من قرطاج إلى روسا ثم إلى ميلان، رحلاته الفكرية من المانوية إلى الشكية ثم إلى الأفلاطونية الجديدة، هذه التنافرات جعلت "ذاته الفطرية بيتا منقسما على نفسه". ويختم جيمس قراءته لهذا الانقسام في ذات سان أوغسطين بالحدث الشهير الحاسم الذي وقع في حديقة ميلان عندما سمع صوت طفل يقول "خذ واقرأ"، ففتح الانجيل عشوائيا وقرأ المقطع الذي بدا أن الله بعثته له ليخفف عنه الصراع الروحي. ويلاحظ جيمس أن انقسام الإرادة يفسره افتقار الرغبات إلى "هذه اللمسة من القوة التفجيرية، من خاصية القوة التوليدية التي تسمح بتفجير القذيفة، والتي تنبثق في حياتهم كقوة فعالة تقمع ميولاتهم الدنيا إلى الأبد" (James, [1902] 1985 : 145).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق