أزمةُ اليسار العربيّ بعدَ انهيارِ الاتّحادِ السوفييتيّ ومنظومتِهِ الاشتراكيّة - كاظم الموسوي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الثلاثاء، 11 يناير 2022

أزمةُ اليسار العربيّ بعدَ انهيارِ الاتّحادِ السوفييتيّ ومنظومتِهِ الاشتراكيّة - كاظم الموسوي

انهارَ في نهايةِ الثمانيناتِ من القرن الماضيّ الاتحادُ السوفييتيّ، وتداعت منظومتُهُ الاشتراكيّةُ بشكلٍ سريعٍ ولافتٍ للانتباه، وناقشت هذا الانهيارَ مراكزُ البحث وأصحابُ القرار السياسيّ، وتناقلتها أوساطُها إضافةً إلى وسائلِ الإعلام بمختلِف مسمّياتها بتحليلاتٍ وتقاريرَ ومقالاتٍ ودراساتٍ اختصرت وقائعها بانتهاء مرحلةٍ مهمّةٍ من تجارِب الشعوب وتاريخها المعاصر، وبدايةِ مرحلةٍ أخرى لها، بالتأكيد ما يميّزها عن سابقتها، وقد لا تكون متقدّمةً عليها. ولكن المؤكّد فيها ما انعكس منها ضمنًا أو تحوّلًا بشكلٍ متسارعٍ أيضًا على كلّ الأوضاع العالميّة والمحليّة، سواءً في الجغرافيّة السياسيّة للاتّحاد السوفييتي ومنظومته، أو في ارتباطات الحركات والأحزاب الشيوعيّة واليساريّة في أنحاء الكرة الأرضيّة، ومنها بلداننا العربيّة بهذه التغيّرات والتحوّلات.

مثلَ غيرِه، واجهَ اليسارُ العربيُّ هذهِ المرحلةَ التاريخيّةَ بصعوباتٍ متباينةٍ تراوحت مع عمق الأزمات المختلفة، على جميع الصعد، وانعكست لشدّتها وسرعتها، وما رافقها من تحدّياتٍ وضغوطٍ بصورٍ وملامحَ أخرى على بِنيتِهِ الواقعيّة، وتكوينِهِ الجدليّ وارتباطاتِهِ الداعمةِ لكينونتِهِ الأيديولوجيّة ومرجعيّتِهِ الفكريّة. فقد كان اليسارُ العربيُّ عمومًا، بتركيبِهِ الممثّل من الأحزاب الشيوعيّة خصوصًا، والحركات الماركسيّة العروبيّة عمومًا، على علاقاتٍ قويّةٍ وارتباطاتٍ مختلفةِ الأوجه مع الاتّحاد السوفييتيّ ومنظومتِهِ الاشتراكيّة. وبدهيٌّ لن تمرَّ حالةُ الانهيار دون أن تتركَ آثارًا وتداعياتٍ مختلفةَ المستوى ومتباينةَ المظاهر، وهو ما حصل فعلًا، وصنع مجراه العام على الجميع، دون استثناء.

المعروفُ أنّ الاتّحادَ السوفييتيّ وحزبه الشيوعيّ وقياداته الفكريّة والأمميّات الشيوعيّة أدّت أدوارًا وأثّرت بأشكالٍ عديدةٍ في دعم تأسيس الحركات والأحزاب اليساريّة والشيوعيّة في العالم، وخاصّةً في وطننا العربيّ، منذ زرع أولى البذور، وحتى تكوّن الأحزاب وقيامها وفعلها الميدانيّ وتحالفاتها وانسجامها مع التحوّلات والتغيّرات الداخليّة والخارجيّة، المحليّة والدوليّة. كما أدّت قيادةُ الاتّحاد السوفييتي وباقي الأحزاب الشيوعيّة والاشتراكيّة القائدة لبلدان المنظومة الاشتراكيّة دورًا فعّالًا في إعداد الكوادر الحزبيّة وتدريبها ومساعدتها على قيادة التنظيمات، وإدارة البناء الحزبيّ والعمل السياسيّ. ولا ينكر الدعم الماليّ والفكريّ والثقافيّ والتعبئة الأيديولوجيّة والإعداد والتدريب لتقبّل الكفاح في البيئات المختلفة، وملائمتها للنضال الوطنيّ والقوميّ بأفقِ الاشتراكيّة والشيوعيّة. وناضلت الأحزابُ الشيوعيّةُ منذ تأسيسها في إطار الحلف الاستراتيجيّ مع المركز الاشتراكيّ والتبادل في المواقف أو التطابق فيما يخدم تلك العلاقات أو الروابط الملزمة للأطراف مع المركز وتوجّهاته الفكريّة والسياسيّة. واستمرّ التأثيرُ الأيديولوجيّ والماديّ والمعنويّ لإشعاع المركز ليس على الأحزاب الشيوعيّة وحدها، إنّما على الأحزاب وحركّات التحرّر الوطنيّ، التي تبنّت هي الأخرى الفكرَ الاشتراكيَّ العلميَّ والتوسّعَ أو التنافس الميدانيّ أو التمثيلَ السياسيَّ مع الأحزاب الشيوعيّة، فروع الأمميّات أو المرتبطة عموديًّا داخلَ البلدان العربيّة خصوصًا، والبلدان الأخرى عمومًا.

أثَّرَ نجاحُ ثورة أكتوبر الاشتراكيّة في روسيا عامَ 1917، وقيادتها البلشفيّة في نشر الوعي الفكريّ والسياسيّ خارج روسيا، وكان لتوجيه لينين رسائل إلى الشعوب الإسلاميّة وشعوب الشرق عمومًا وقياداتها السياسيّة مفاتيح علاقات، وانتباهات لتوجّهاتٍ جديدة. فقد جاء في رسالةٍ وجّهها لينين إلى المسلمين في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر عامَ 1917: "يا أيّها المسلمون في روسيا وسيبيريا وتركستان والقوقاز.. يا أيّها الذين هدم القياصرة مساجدهم وعبث الطغاة بمعتقداتهم وعاداتهم، إنّ معتقداتكم وعاداتكم ومؤسساتكم القوميّة والثقافيّة أصبحت الآنَ حرّةً مقدّسة، نظّموا حياتكم القوميّة بكامل الحريّة، ودون قيدٍ فهي حقٌّ لكم، واعلموا أنّ الثورةَ العظيمةَ وسوفييتات النواب والعمال والجنود والفلاحين تحمي حقوقكم وحقوق جميع شعوب روسيا". وفي التقرير الذي قدّمه لينين في المؤتمر الثاني لعامة روسيا للمنظّمات الشيوعيّة لشعوب الشرق (22 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1919)، "وفي إثر مرحلةِ استيقاظ الشرق ستحلُّ في الثورة المعاصرة مرحلةُ اشتراكِ جميع شعوب الشرق في تقرير مصائر العالم كلّه، كيلا تكون مجرّدَ وسيلةٍ للإثراء. إنّ شعوب الشرق تستيقظ لكي ما تعمل حقًّا وفعلًا ولكي ما يسهم كلُّ شعبٍ في تقرير مصير البشريّة بأسرها". وفي هذا الإطار انتشرت الأفكارُ الاشتراكيّةُ في البلدان العربيّة، وتأسّست نواتات النقابات العماليّة والأحزاب الاشتراكيّة والشيوعيّة، وتطوّرت منظّماتُها، وأخذت بمهمّات التحرّر الوطنيّ ومقارعة قوى الاستعمار والرجعيّة المهيمنة في تلك البلدان. وأعلن عن تأسيس أحزابٍ اشتراكيّةٍ وشيوعيّةٍ في العشرينيات من القرن الماضي في فلسطين ومصر وبلاد الشام، ولحقتها في العراق والعديد من البلدان العربيّة، في مشرق الوطن ومغربه. وتمّت العلاقات والصلات بينها وبين المركز، الاتّحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكيّة، وأخذ التعاونُ والتضامنُ الأمميُّ موقعَهُ في نهوض حركات التحرّر الوطنيّ في الوطن العربيّ، وتجذر الأحزاب والقيادات اليساريّة فيه، وكانت لها تحالفاتها ومواقفها التاريخيّة في اندلاع الانتفاضات والثورات والتحوّلات.

بدهيًّا لا تترك قوى الاستعمار والرجعيّة وأنظمتها البوليسيّة المجالَ والساحاتِ لنشاط الأحزاب اليساريّة عمومًا، وقامت باستمرارٍ بالتدمير الداخليّ لها أساسًا، والتضييق عليها، وحتى العمل على منعها وحرمانها من العمل العلني، الأمرُ الذي ترك آثارًا سلبيّةً أدّت إلى صناعة عواملَ ذاتيّةٍ وموضوعيّةٍ لتحجيم الدور وإضعاف الفاعليّة السياسيّة، شهدت له السجونُ والانقساماتُ الداخليّةُ والتنافسُ غيرُ المبدئيّ بين تلك الأحزاب والتحالفات الطبقيّة. وحاول الاتّحاد السوفييتي هنا أيضًا في البحث عن حلولٍ لقضايا الخلافات داخلها في أكثرَ من بلدٍ عربيٍّ ومساندتها في توحيد جهودها وتطوير وسائل كفاحها الوطنيّ والقوميّ.

كان هذا قبل الانهيارات فكيفَ حصلَ بعدها؟! 

بالتأكيد لم يكن الأمرُ يسيرًا، حيث فقدت هذه الأحزابُ مرجعًا رفاقيًّا كبيرًا أسهم في الدعم والتضامن والتطوير على مختلف الصعد، ممّا عمّق من الأزمات والتحدّيات. وكان أبرزها القدرةُ على تجاوزها على الصعيد الفكريّ والدعم الماديّ والبناء التنظيميّ والعلاقات الأمميّة. فقد مارست القياداتُ الحزبيّةُ وإداراتها السياسيّةُ أدوارًا تابعةً للمركز، وانحيازات كاملة، لا سيما بعد انقسامِهِ أيضًا، في الصراع السوفييتيّ والصينيّ، وموقفه من سياسات "التعايش السلميّ" وغيرها من السياسات العمليّة، وكذلك انعكست عليها آثارُ تلك الصراعات، وصولًا إلى تفكّك المرجع المشترك، وتعدّد المصادر بين القوى الاشتراكيّة العالميّة، وكانت هذه الحالةُ البدايةَ في تراجع الدور الحركيّ في قيادة التحوّلات والتغيّرات المحليّة والإقليميّة، وظهرت في توقّف الاجتماعات الدوريّة للأحزاب الشيوعيّة والعمّاليّة في المنطقة العربيّة، وتوزيع المجلّة النظريّة والتضامن الأمميّ عمومًا. وتكشّفت ملامحُ الأزمات أكثرَ في طبيعة الانشطارات البينيّة، داخلَ كلّ حزبٍ وكلّ بلد، مما شتّت الكفاح المشترك، والسعي إلى الوحدة الوطنيّة والقوميّة، لا سيما للأحزاب الماركسيّة العروبيّة، أو الشيوعيّة في البلدان المتعدّدة القوميّات. وطبع الانهيار في المركز نفسه على الأحزاب "التابعة" له خارجه، وبروزه في الصراعات الفكريّة وتغيير المسمّيات، والتخلّي عن الإعلان العقائديّ في الماركسيّة اللينينيّة منهجًا أيديولوجيا لها، وحتّى التهرّب من رمزها المميّز لها في نشر "المطرقة والمنجل" في مطبوعاتها، وكذلك من مصطلحاتٍ فكريّةٍ أساسيّةٍ، مثل النضال ضدّ الإمبرياليّة أو صراع الطبقات ودكتاتوريّة البروليتاريا أو البروليتاريا، وحتى الدور الطليعيّ لها في التحرّر الوطنيّ، وتغيير اسمها والابتعاد عن قاعدتها الطبقيّة المعبّرة عنها، وتعرّضها لتناقضاتٍ وجوديّةٍ لذاتها، ودورها الطبقيّ والسياسيّ، لا سيّما في التسابق إلى التعاون أو التراضي مع العدوّ الطبقيّ والسياسيّ، الداخليّ والخارجيّ على السواء، وقَبول روح التنازل والمساومة على القيم والمبادئ لانتهاز مصالحَ شخصيّةٍ أو مغرياتٍ وقتيّةٍ وعلى حساب البرامج العلميّة، وفقدان الادراك بضياع البوصلة الثوريّة، والأمميّة والضرورة الطبقيّة، وبخس وخسارة دماء الشهداء والتضحيّات وصفحات البطولات التاريخيّة وأمجاد الحزب، وليس هذا تعبيرًا عن مسعى إلى التجديد النظريّ أو التطوير الفكريّ وبناء حزبٍ جديد، بل تخلٍّ عنه وتجميدٌ لأدواتِهِ الفاعلة.

كلُّ هذا حصل، وحدث فعليًّا، هذا وغيره.. وقد عكس في خلاصتِهِ طبيعةَ الأزمات التي واجهها اليسارُ العربيُّ وتنوّعها، وبعد كلّ ذلك لا بدّ من التوقّف عند طبيعة كلّ واحدةٍ منها، وهي غيرُ قليلةٍ، ولا يسيرةٍ، وتبدأُ في صحّة تشخيصها، ومعرفة تحدّياتها وعمقها وضرورة المراجعة الموضوعيّة لها، بقراءةٍ علميّةٍ للمتغيّرات والتحوّلات وعواملها الذاتيّة والموضوعيّة؛ كي ينهضَ اليسارُ العربيُّ اليوم، ويقودَ المواجهةَ والعودةَ لأخذِ زمامِ القيادةِ في طليعةِ التغييرِ التقدميّ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق