معانقة الموتى - كاظم الحلاق - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الخميس، 2 فبراير 2023

معانقة الموتى - كاظم الحلاق


في إحدى أماسي شهر تموز بينما نجلس أنا وزميلتي "تانيا" بمفردنا في غرفة الاستراحة قدم المدير ليقف في الباب واستفسر منا إن كنا قد فرغنا من عشائنا. كان هو من اتصل بأحد المطاعم العراقية وطلب لنا أوزة مشوية ليطيّب الأجواء ويشجعنا على مواصلة العمل في هذا المكان الموحش قبل أن يتسلم اتصالا من مستشفى "سان جوزيف" الذي لا يبعد كثيرا عن دار الجنائز.

سألنا بصوت منخفض حزين:

- كيف كانت الأوزة العراقية؟

رددنا عليه في الوقت نفسه تقريبا:

- لذيذة، لكن للأسف لم نبق لك شيئاً، كنا جائعين جدا فالتهمناها.

فابتسم وقال بلطف:

- أشكركما، لقد تناولت في الطريق سندويشة بأحد المطاعم، لكن لا بأس بشيء من البيبسي. فمددت يدي الى القنينة البلاستكية الكبيرة وملأت له قدحاً.

وبعد أن فرغ من شرابه، سألنا أن ننزل جثة من سيارة الفان جاء بها من المستشفى وننقلها إلى الثلاجة، ثم رجع الى مكتبه. خطونا أنا وزميلتي تانيا الى غرفة تحنيط أو حفظ الجثث والتقطنا نقالة بينما بدت زميلتنا الأخرى " غابي" المختصة في الحفظ مستغرقة في ضخ المواد الكيماوية من إحدى المكاينات في جسد امرأة عجوز. التفت غابي نحونا لتقول بنبرة جريئة:

- هل جاءوا بجثة جديدة؟

- نعم.

ردت عليها تانيا بأسى، ونحن نعطيها ظهرنا، متجهين نحو الباب الخلفي حيث تقف سيارة الفان السابحة بالضوء الأصفر الشاحب المنسكب من بروجكتر كبير مثبت بالجدار.

فتحنا باب الفان وسحبنا الجثة المغطاة بشرشف رصاصي لكي نضعها على النقالة. وبينما نفعل ذلك انزاح الغطاء ليظهر الجزء العلوي من الجسد، فصدمت بشدة حين رأيت الوجه الرائع الجمال، وضربت جبهتي براحة يدي عدة مرات وأنا أردد في داخلي: يا للحياة الغريبة.

- لمَ أنك منفعل هكذا، ما الذي حدث؟

علقت تانيا مستغربة من ردة فعلي وهي تنظر بكل جدية إلى الجثة الممدة على النقالة بينما الشرشف يتدلى على الجانبين:

- يا لها من فاتنة!

ثم أضافت وهي ترفع رأسها باتجاهي:

- لكن ماذا دهاك؟

- سأخبرك بعد قليل.

قلتها وتنحيت جانبا وممدت يدي الى جيب صدريتي لأخرج علبة سجائري وأشعل واحدة وأنفث الدخان بحرقة وألم.

كانت تانيا لا تدخن، مع أنها أحيانا تدفعها النزوة فتمد يدها نحو سيجارتي باستحياء لتقتسم منها بعض الأنفاس وتعيدها لي وهي تسعل مختنقة بالرائحة.

قالت وهي تحاول أن تخفف عني مما أنا فيه من ارتباك وذهول مثل طفلة تريد المشاركة في كل ما يدور حولها مشيرة الى سيجارتي:

- طيب أين حصتي؟

فقدمت لها السيجارة وقلت: أكمليها، فابتعلت منها بعض الأنفاس لكنها سرعان ما زفرتها ثم رمت السيجارة جانباً على الاسفلت.

نظرتُ مرة أخرى إلى الجثة ورحت أدقق في ملامح الوجه الجميل الذي يغطي جوانبه الشعر الأشقر بينما اللون الوردي مازال ينتشر فوق الخدين والشفتين المنفرجيتن والمملوءتين بتناسق محبب للنفس، وخاطبت تانيا وعيناي مغرورقتان بالدمع:

- إنني أعرف هذه الفتاة؟

- كيف تعرفها، هل أنك تتكلم من كل عقلك أم جننت؟

- نعم يا تانيا، إنني متأكد، لا يمكنني أن أخطئ شكل "كاثي" أبداً.

ردت بفضول ممتزج بالشك:

-هل تعرفها عن قرب أم بشكل عابرة؟

-عن قرب يا عزيزتي.

- طيب ما اسمها الكامل؟

- كاثي ليوس.

- متى وأين التقيتها؟

- سأبلغك لاحقا.

كانت كاثي تتمدد على النقالة بذراعيها المسبلتين إلى جانبيها والشرشف الرصاصي المتجعد يغطي جسدها مظهرا وجهها الجميل بجفونها المغمضة وشفتيها المنفرجتين عن ابتسامة تعبر عن الاحساس بالغبطة والرضا، كأنها نائمة نوما هانئا لا أكثر. دهشت جدا، ولم أصدق عيني أبداً. نظرت في الأوراق المرفقة وشهادة الوفاة لكي أتأكد إن كنت في حلم أم حقيقة، لكنها كانت هي ذاتها: "كاثي ليوس" وسبب الوفاة جرعة مخدرات مفرطة وهي في الخامسة والعشرين لا أكثر.

عادة ما تبقى الجثة معنا في الدار أربعة أو خمسة أيام وأحيانا أكثر من ذلك، وفق الظروف. في اليومين الأولى تظل الجثة راقدة في المبردة لكي لا تتحلل بسرعة، دون أن نعمل أي شيء لها. وبعد إكمال توقيع الأوراق تتصل بنا العائلة من أجل تجهيزها لالقاء النظرة الاخيرة على الفقيد، ومعرفة الجهة التي سيؤول إليها الجثمان إن كانت الدفن أم الترميد.

دفعنا النقالة أنا وزميلتي تانيا نحو غرفة المبردات. كانت ثمة أربع مبردات متجاورة، احتوت كل واحدة على ثلاث أو أربع جثث لرجال وأطفال ونساء، ما عدا الأخيرة فكانت فارغة فوضعنا كاثي فيها.

قلت لتانيا:

- أريد أن أدخن سيجارة، هل ترغبين في المجيء معي؟

فقالت:

- حسناً دعنا نذهب الى الفناء الخلفي لكي تحكي لي عن كاثي الفاتنة أيضا.

ذهبنا هناك وجلسنا على كرسيين متقابلين، كان ساحة النادي الرياضي الواقع الى الخلف من دار الجنائز مهجورة تماما، وقد غمر العشب وأشجار النخيل القريبة منها نور البدر المرتفع عاليا في السماء الزرقاء الخالية من السحب. كانت درجة الحرارة مرتفعة حد الازعاج، فاخرجت تانيا منديلا من صدريتها البيضاء وراحت تمسح عينيها السوداوين وأنفها الكبير قليلا، ثم مررت أصابعها في خصلات شعرها المتموجة النحاسية اللون. أخرجت علبة سجائري، وخاطبتها:

- أرجوك لا تقاطعيني في تدخين سيجارتي، إليك بواحدة دخنيها كلها بنفسك أو أرميها إذا ما تضايقت منها. ثم اشعلت اثنتين لها ولي.

- لا تقلق لن أقاطعك بشيء، لكن أرجوك اخبرني عن كاثي. كيف التقيت بها وعرفتها؟

كانت كاثي تعمل موظفة في "بنك أوف أميركا" الذي لا يبعد أكثر من بضع دقائق بالسيارة عن محل الحلاقة خاصتي. وكنت حين أذهب إذاك لأضع وديعة هناك كنت أتبادل بعض الحديث معها وأنا أتطلع إلى بهاء جمالها وأنوثتها الفريدة وقامتها الفرعاء، متمنيا لو تربطني بها علاقة حميمة ونصبح قريبين من بعض.

ذات مرة سألتني عن طبيعة عملي فأخبرتها بأنني حلاق، وقدمت لها البطاقة التي تحمل رقم الهاتف وساعات العمل وعنوان المحل وحثثتها على المجيء. وفي زيارة تالية كان يوم سبت والبنك خال من العملاء، بعد أن عبأت معلومات البطاقة المرفقة بالوديعة وخطوت نحو الكاونتر حيث تجلس وراء النافذة الزجاجية ذات الفتحة المستديرة، ألقيت عليها التحية قائلا:

- كيف هو صباحك يا كاثي؟

ردت بود وحرارة:

-صباح جميل، شرّفه حضورك هنا.

فشكرت تواضعها وازداد اعجابي بها جدا.

ثم سألتني كاثي:

- هل أنت حلاق رجالي فقط أم تقص شعر النساء أيضا؟

فقلت وأنا أتطلع إلى عينيها الواسعتين المشرقتين عميقتي الزرقة وشعرها الأشقر السرح المنزاحة خصلاتها جانبا لتكشق عن روعة نهديها البديعين المنتصبين المتراءين من خلال قميصها السماوي الشفاف:

- أقص شعر الرجال والنساء على حد سواء.

صمت للحظاتُ، بينما انشغلت كاثي بتدوين بعض الأرقام في جهاز الكمبيوتر الموضوع بجانبها، ثم أضفت:

- في الحقيقة ذهبت الى مدرسة حلاقة نسائية وتخصصت في دراسة قص وصبغ شعر النساء وعمل المكياج.

عندئذ التفت نحو زميلتها الجالسة في النافذة المجاورة، لتقدمني لها ذاكرة اسمي لها، ثم أردفت: إنه حلاق ويعمل قريبا من البنك.

كانت صديقتها آسيوية جذابة ذات جمال مذهل تدعى " دستني"، لكن جمال دستني مختلف عن جمال كاثي الذي يحاكي سحر زهرة غضة تنبت على ضفة بحيرة منسية.

بادلتني دستني عبارات التعارف بنبرة ممتزجة بالاعجاب والود والاغراء ثم قالت:

- سنتوقف في أحد الأيام في محلك بعد أن نفرغ من العمل.

- يسعدني ذلك جدا.

في الزيارة الأولى جاءتا معا وقصصت شعرهما وسرحته. مكثتا ما يقارب الساعتين وأخذنا نتحدث عن أستوديو التصوير القديمة الواقعة على الجانب الآخر من الشارع الواسع الذي يقع عليه المحل. ثم بعد أسبوع جاءت كاثي بمفردها لتقول بأنها تريد ان تشذب حاجبيها بالخيط وتزيل بعض الزغب الناعم حول شفتيها، وبعد ان استراحت قليلا وقدمت لها عصير برتقال.

سألتها:

- أين صديقتك الجميلة دستني؟

ابتسمت ابتسامة مشرقة مترعة بالمحبة لتقول:

-هل أحببت جمالها وطاقتها؟

-أجل، لكن جمالها الناعم يختلف عن جمال جسدك الوحشي الغريب يا كاثي!

كانت تانيا تصغي بانتباه شديد ولاحظت أن رموشها الطويلة تبللت بقطرات دمع راحت تنسكب على وجنتيها، ثم سألتني عن سيجارة أخرى، فاخرجت اثنين لها ولنفسي واشعلتهما.

في تلك الاثناء جاءت زميلتنا الأخرى " غابي" الأربعينية العمر، بعنقها القصير وخديها المملوءتين وبطنها الكبيرة البارزة من صديرتها البيضاء لتقول لنا:

- هل بوسعكما المجيء إلى الداخل لوضع المكياج على وجه المرأة العجوز؟

- سنأتي بعد ربع ساعة أو شيء من هذا القبيل. علقتُ

كانت تشتغل على حفظ الجثة بمفردها منذ نحو ساعتين أو ثلاث.

- ليس بوسعنا الانتظار، الان الرابعة فجرا، وغدا في الصباح سيأتي أفراد عائلتها إلى الكنيسة لألقاء نظرة أخيرة عليها.

- طيب سننهض ونأتي الآن.

فغادرت غابي كأنها دُّبّة تتهادى على ساقيتها القصيرتين.

قبل أن ننهض التفت نحو تانيا وأخبرتها:

- أرجوك يا عزيزتي ألا تبلغي أي شخص بمعرفتي بكاثي، أو أنني جمعتني بها علاقة حب من طرف واحد من قبل.

لكنها فاجأتني بتعلقيها مرددة ببعض بعض الكلمات العربية التي تعلمتها مني بأوقات سابقة.

- نعم يا هبيبي ، نعم يا أيوني ، لا تحزن لن أخبر أي شخص بما يجري بيننا أبداً، الرب يشهد على كلامي.

ثم مضينا الى غرفة الحفظ المكتظة برفوف المحاليل المُعلّمة بألوانها المختلفة وطاولة الحفظ البيضاء المصنوعة من البورسلين والمنقوش على سطها أوراق ضخمة لغصن شجرة مقطوع، بينما تتناثر في الممرات وفوق الرفوف رؤوس الفلين البيضاء الخالية من الشعر، التي تتراءى لي أحياناً كأنها رؤوس بشرية حقيقية، حنطت في القاعة نفسها وعادت من عالم الموت؛ مسوخا لترقب ما يدور لآخر تماس آدمي في المكان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق