الأرابيسك : حسن النعماني وصراع الهوية - د.ياسر تركي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأحد، 12 فبراير 2023

الأرابيسك : حسن النعماني وصراع الهوية - د.ياسر تركي

أتبع الفنانون العرب خطوات متطورة في تأليف زخارفهم ،فمن أول هذه الخطوات تبسيط وتحوير الأشكال الزخرفية القديمة وأخذوا يبتعدون فيها تدريجياً عن تمثيل الطبيعة ، ومن أمثلة الزخارف العربية المتطورة مانجده في أسلوب سامراء الزخرفي في الطرازين الثاني والثالث حيث يُعدان بحق مرحلة متقدمة من مراحل التطور الزخرفي وانتقل طراز سامراء إلى مدينة الفسطاط في مصر على يد احمد بن طولون .

وظهر إبتكار جديد في تفاصيل الزخرفة العربية الإسلامية في مدينة الموصل في أواخر القرن السادس بداية السابع للهجرة وذلك في إطار الزخرفة العام .

حصل التطور الكبير في الزخرفة العربية في القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادي ، وكان بداية ظهور اشكال التوريق فن الأرابيسك Arabesque (محمد حسين جودي ، الإبداع العربي في الخط والزخرفة : مجلة ( آفاق عربية ) كانون الثاني ، 1989،ص 74)

وتميز الحرفيون المصريون ومازالوا بمهارتهم في الصنعة وإنتقاء أفخر أنواع الأخشاب مثل الكافور والصندل في إنتاج القطع الأرابيسكية ،ويبدو إن هذا الإتقان أوقع الفنانون المصريون في شَرَك " الأسر الفني " الذي فرضه عليهم السلطان العثماني سليم الأول الذي إستدعى صانعي الأرابيسك المصريين ليقوموا بحرفتهم بتزيين قصور اسطنبول ؛ ومن أغرب ماروي عن هؤلاء الصانعين أن سلاطين العثمانيين احتجزوهم بعد إنهاء عملهم ولم يعودوا إلى مصر !

هذه الواقعة المؤثرة إستغلها الأستاذ أسامة أنور عكاشة ليبني عليها عمله الدرامي الكبير " أرابيسك - أيام حسن النعماني " الذي عُرضت حلقته الأولى في مثل هذا اليوم قبل 29 عاماً أي في الحادي عشر من فبراير 1994 وتضمنت مشهداً تأريخياً في مطلعها يُصور السلطان العثماني وهو يعتقل الفنانون المهرة ويجبرهم على السفر إلى اسطنبول .

تدور احداث المسلسل المكون من 41 حلقة قصة حسن أرابيسك ( شخصية ثلاثية الابعاد ) وهو سليل أسرة توارثت العمل في مجال الأرابيسك منذ مئات السنين وأدى الدور بإتقان بديع الفنان الكبير صلاح السعدني وهو اهم دور له على شاشة التلفزيون بعد دوره في مسلسل " ليالي الحلمية " العمدة سليمان غانم .

حسن النعماني فنان يمتلك ورشة لصناعة الأرابيسك في حي شعبي هو حارة أو خان دويدار في الجمالية موطن الأرابيسك يمتلك شهامة إبن البلد / الجدع الذي يُدافع عن فتيات الحارة بقبضة يدهِ ضد أي تحرّش ويتصدى لبؤر التكفير النامية في الزوايا المُظلمة لخان دويدار معلناً ان الدين أكثر سماحةً من أفعالهم .

تشير صورته التذكارية المُعلقة خلف مكتبه الصغير بالبذلة العسكرية إلى سيرتهِ الوطنية وأصله الطيب وعشقه لتراب وطنه ؛ فهو محارب شجاع شارك في أكتوبر فكان شاهداً للنصر وكسر المستحيل .

حسن النعماني إنسان لهُ عُيوب وسيئات كأي إنسان ولكن ميزته إنه متمسك بالأصالة واثق بمستقبل الأمة رغم التفوق الغربي الهائل مقارنة بواقعنا العربي والأسلامي فمثلاً صراعه مع أخوه الصغير حسني ( الفنان الراحل هشام سليم ) الذي يطلب من حسن بيع الورشة ( التي ترمز إلى الأرث الثقيل والقيم التي تصارع ريح الحداثة والعولمة ) فيما يشبه حكاية صراع الأجيال رغم الفارق العمري البسيط بينهما ؛ إذ يُشير ذلك إلى التحولات الكبرى التي شهدها العالم في مفتتح تسعينيات القرن المُرتحل من صراع حضاري بين ثقافات العالم ومحاولة المحافظة على الهوية وسط تلك العواصف والهزات التي خلخلت افكار ومعتقدات واسس وهويات كثيرة في عالم مابعد الحرب الباردة .

ويواجه حسن النعماني منافس شرس هو رمضان الخُضري ( الفنان المنتصر بالله ) زوج أخت حسن / تاجر نابوليا ناجح مادياً يكسب أموالاً طائلةً من تجارته رغم كونه شرٌ مُطلق ومعوج بالفطرة عكس الحرفي الفنان الأسطى حسن وتستمر هذه الثنائية المتناقضة والصراع بين القيم المادية والروحية طوال حلقات المسلسل .

فحسن كما يقول سيد حجاب في كلمات تتر المسلسل ( التي لحنها عمار الشريعي ) يعيش لخدمة مجتمعه قابضاً على قيمهِ وأخلاقه كمن يقبض على جمرة :

" دُنياك سكك .. حافظ على مسلكك

وامسك في نفسك .. لا العلل تمسكك

وتقع في خية تملكك .. تهلكك

اهلك .. ياتِهلك .. ده انتا بالناس تكون ".

ولاتخلو الحارة من شخصيات مشابة لحسن حافظت على خصوصيتها الفريدة في واقعٍ متغيّر مثل الست عدولة ( الفنانة سُهير المرشدي ) التي يصفها حسن بقوله :

" عدولة دي آخر حته في الصنف اللي خلص ..

ومعدتش منه ، زيها زي حاجات كتير بنلتفت حوالينا دلوقتي منلقيهاش … زي الأرابيسك ياحسني الأرابيسك الأصلي ، شغل الخشب والصدف والنحاس النمنمة اليدوية مش شغل البلاستيك والاسطمبات ، وبعدين الأرابيسك مش بس في الخشب والصدف والنحاس ، لا في البني آدمين كمان ….".

يعرض لنا أسامة أنور عكاشة ضمن سياق المسلسل ثلاثة زلازل ثقافية / إجتماعية / أخلاقية الاول خلخل أساسات بُنية مصر الفنية بعد ان خطف السلطان العثماني كفاءات وخِبرات لاتعوض رغم ان روح الإبداع الفني ظلت متأصلة في الأبناء متمثلة بحسن النعماني وهو يُصارع ببسالة واقع متغير وحداثة مصطنعة مستوردة .

الزلزال الثاني إستثمار حدث حقيقي هو زلزال عام 1992 الذي ضرب حواري مصر القديمة فتهاوت المنازل المتخلخلة البُنيان ولم تُقاوم إلا البيوت القوية التي شيدت على اساس متين إذ تقول أم حسن ( الفنانة الكبيرة هُدى سلطان ) :

" لما حصل الزلزال أنا مخفتش على البيت ده ، لأني عارفه انه أصيل ومتأسس ، وحسن ابني زي البيت ده وقديم زيه ".

إشارة عكاشة هنا تفضح الفساد والغش وموت الضمير الذي استشرى بين صفوف الناس وهدد حياتهم سواء في العمران ام في البناء الأخلاقي .

الزلزال الثالث تمثل في الصدمة التي ضربت الوجدان العربي بعد غزو العراق لدولة الكويت ومانتج عنه من هزاتٍ إرتدادية مزقت الصف العربي وخلقت وضعاً جديداً مشوهاً دفع الجميع إلى إعادة النظر في الشعارات والمفاهيم الشائعة منذ عقود وخاصةً بعد ان يأتي العدوان والفعل المُشين من قبل نظام عقائدي يدعو إلى نهضة العرب وإتحادهم .

ولاننسى المفارقات التي تحدث للدكتور برهان صدقي ( الأستاذ الكبير كرم مطاوع ) الأستاذ المتخصص في الطاقة النووية الذي كان يعمل في امريكا وعاد ليستقر في مصر إذ تتعرض حياته للتهديد والخطر من قبل دولة معادية يسهم حسن بالتعاون مع المخابرات المصرية من المحافظة عليه ككفاءة علمية نادرة ( وهنا يقول له حسن بأسى كنا متقوين بيك ولكن الواقع انك تحتمي بنا ) ؛ ثم يرغب الدكتور برهان بتحويل الفيلا الخاصة به المبنية على الطراز الاوربي الحديث إلى متحف يلخص الحقب التأريخية المهمة التي مرت بها مصر منذ ثلاثة آلاف عام ( فرعوني / قبطي / روماني / يوناني / عربي ) فيتولى حسن تنفيذ المشروع في إشارة إلى الشخصية المصرية المركبة من إلتقاء ثقافات عدة ؛ فسخر حسن من هذا الإتفاق بينه وبين نفسه وترك الفيلا التي يعرف ان اساسها متهاوٍ لتسقط في الزلزال / ولما حبسته السلطة بتهمة هدم بناء دون ترخيص دافع عن نفسه بخطبة عصماء امام المساجين وهنا رمز لحال مصر التي اتعبها المخربون .

يقول حسن :

" سواء كان انا .. او الزلزال او التوابع .. فاللي حصل ده كان لازم يحصل لانه الترقيع ماينفعش …وبعدين الفن مهوواش طبيخ الدكتور برهان جه وقال عايزين نعمل تحفة ترمز لتاريخ مصر كله بس تاريخ مصر كبير أوي وطويل فرعوني على قبطي على روماني على يوناني على عربي

الحمد لله ان الفيلا وقعت عشان نرجع ونبتدي مع مصر من اول وجديد على ميه بيضا ، لكن المهم نعرف إحنا مين وأصلنا إيه وساعة مانعرف أحنا مين هنعرف أحنا عايزين إيه وساعتها نتكل على الله " .

الخاتمة تبدو متفائلة بإنتصار حزب حسن النعماني وبقاء ذكره وأثره رغم كل تعقيدات الوضع ففي المشهد الأخير يظهر درويش يهرول في كل الاتجاهات ومبخرته في يده صارخاً :

" حسن طالع .. راجع ، حسن جاي "

اذن الجولة الاخيرة في هذا الصراع المحتدم ستكون لصالح الأصالة والقيم التي يمثلها بصدق حسن النعماني .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق