أسقط النحاة بعدي اسم الفعل واسم
الصوت ليحافظوا على التثليث الذي يرد اللغة إلى الحرف والفعل والاسم. وقد يكون
السبب هو هذه التسمية للمقومين المتقدمين عليها ثلاثتها.
أعني الرسم المتقدم أصلا للفعل
والنغم اصلا للاسم. ذلك أن الفعل حركة ترتسم في إشارة البدن والاسم صفة تنغم في
اشارة صوت الشيء.
فيكونا الواصلين بين الحرف ونشأة
الفعل والاسم وهو إذن قلب المعادلة اللسانية قبله رسم الاشارة ونغم العبارة يعود
عليهما ليخرج منهما بتواليفه الفعل والاسم.
ولما كانت الإشارة المرسومة
والعبارة المنغومة تحيلان بوصفهما رمزين مجردين إلى معان ليست محددة الدلالة فإن
المعنى الإشاري بالرسم والعباري بالنغم أي الهندسة المعبرة بتشكيل المكان
والموسيقى المعبرة بتشكيل الزمان تحتاجان إلى ترجمة باللسان -الحرف والاسم والفعل-
لتعيين الدلالة التي تنتأ على المعنى نتوء المعين على المجرد الممثل للممكن بمتقضى
تعدد التاويل والمناسبة مع المتعينات:
وتلك هي الخاصية الجوهرية
للرياضيات في النظر برمز المكان والزمان والخاصية الجوهرية للأخلاقيات في العمل
برمز الجوار بين البشر .
وهو ذو نوعين: المتساوق في المكان
والمتوالي في الزمان شرطي العيش المشترك بين البشر في الجماعة من أدناها (الأسرة)
إلى أسماها (البشرية) بل وإلى الاسمى بإطلاق دنيوي وحتى اخروي.
وبهذا المعنى تصبح اللغة البشرية
مخمسة الأبعاد مدارها ومركزها الحرف الذي هو نقل الصوت من مجرد تصويت مصاحب
للعبارة البدنية إلى ترجمة رمز التشكيل المكاني والتشكيل الزماني بالتشكيل اللساني.
لذلك نميز بين الفونام والصوت.
فالابكم يصوت لكنه لا ينقل الصوت من مجرد التصويت إلى الترجمة بالحروف التي هي
بدورها كتابة في الجهاز المصوت من خلال منظومة الحروف التي تتحدد بمكانها في
المخارج وبزمانها في مدتها.
ولولا ذلك لاستحال الاقتصار على
مدد الحركة في الشعر دون حاجة لحسبان الاصوات بحيث إن البحر يتحدد بالحركات ومدتها
وكلتاهما خانات خالية يمكن ملؤها بالأصوات ليتحدد مضمونها الشعري.
فيكون المضمون مسبوقا بالتشكيلين
الرسمي والنغمي بحيث يمكن أن تأخذ أي بيت من ابيات الشعر فتغير كل المضمون الصوتي
ولا تبقي منه إلا على التشكيلين الرسمي والنغمي.
فيكون لك بيت مختلف تماما عن البيت
الذي افرغته من مضمونه وابقيت على تشكيليه الرسمي والنغمي. وبذلك يمكن أن تعارض قصيدا كاملا
فتبقي على البحر من حيث الرسم والموسيقي أي من حيث تشكيليه الراسم في القصيد مكانا
وفي الإيقاع زمانا.
ولأن التشكيل المكاني والتشكيل
الزماني سابقان وغير محددي المضمون المعين إلا بفضل العادة التي تقرن التكشيلين
بالإشارة إلى الاعيان التي تدركها الحواس وخاصة العين والاذن يكون المعنى اللامحدد
متقدما على المعنى المحدد:
فالمعنى اللامحدد هو الشكل الخالي
من المضمون المعين رسما ونغما
والمعنى المحدد هو المضمون الذي
يملأ الشكلين وهو الدلالة المشار إليها.
وبذلك نكون قد زدنا المعنى
اللامحدد مضمونا أولا إلى المعنى المحدد مضمونا ثانيا. والاول نسميه معنى لا غيرDer Sinn. والثاني نمسيه دلالة لا غير Die Bedeutung أي إنه ذو مرجعية في معجم الجماعة
محدد وليس شكلا قابلا للممكن المرسل.
الممكن المرسل هو ما أعنيه
بالتقدير الذهني الذي يكون فيه الرمز الرياضي مثلا رامزا لرمز هو تعريف المعنى دون
أن يكون شيئا تدركه الحواس مرجعية دلالية:
ومعنى ذلك أننا لو قسنا الامر على
علاقة الاسم بالمسمى لقلنا إن التقدير الذهني ليس رمزا مقصورا على الاسم بل هو في
آن يرمز لرمز هو عين المسمى.
وفي هذه الحالة فكما أن ذلك يحصل
في النظر وهو الرياضيات فمثله يحصل في العمل وهو الاخلاقيات (وهو قياس قمت به
للتوازي بين النوعين مما لا تدركه الحواس لعدم تعينه في مرجعيات دلالية وبقائه
بنية مجردة تقبل التطبيق على أي مضمون كالحال بحور الشعر وعلاقتها بالمضمون ):
ففي تلك يكون المسمى معنى ليس له
مرجعية معينة في الوجود الخارجي لكن يمكن رسم اعيان منه للتمثيل للمعنى وغالبا ما
يكون الرسم هندسيا ثم بالتدريج صار ترميزا اكثر تجريدا كالحال في لغة الرياضيات
الحديثة التي لم تعد تسمي المعاني بل ترسمها.
وفي هذه يكون المسمى معنى ليس له
مرجعية معينة في الوجود الخارجي لكن يمكن رسم اعيان منه للتمثيل للمعنى وغالبا ما
يكون الرسم قدوة في سلوك البشر ثم بالتدريج صار ترميزا اكثر تجريدا كالحال في لغة
القيم التي تحدد قيم الأشياء الذوقية والخلقية.
وغالبا ما يكون النوعان محيلين إلى
عالم متعال على عالم التجربة الحسية وهو عالم ديني في العمل ويعسر أن يكون دينيا
في النظر لأن مطلوب الأول هو القدوة في العمل في حين أن الثاني يعسر أن توجد فيه
قدوة في النظر.
فيمكن في العمل أن احاكي غيري. لكن
يستحيل أن أحاكي غيري في النظر لأن النظر المحاكي ليس نظرا أصلا لغياب شرطه أي
الوعي الذاتي للناظر بما يفعل إذ يبدع الفكرة التي ليس لها مثيل في التجربة الحسية.
ولذلك يصبح من الضروري أن يزدوج
مفهوم المعنى أي ذو الدلالة المعينة في اللغة اللسانية وذو الدلالة اللامعينة
لاقتصارها على التشكيل المكاني والزماني كما في رمز البحور الشعرية: خانات خالية
من المضمون الصوتي.
فينتج من ثم أن الثالوث التقليدي
يضاف إليه بعدان آخران:
بعد الرموز التي لها معنى مرسل
لأنها خانات خالية من المضمون عدا تشكيلها الرسمي والنغمي
بعد الرموز التي لها معنى محدد أو
مرجعية في المعجم المتعلق بالإشارة إلى التجارب المصاحبة لها في اللغة اللسانية
العادية
ومن ثم فإن هذا الازدواج ينتج عنه
نوعان من التداول:
الاول مقصور على المعاني دون
مرجعية تجريبية
الثاني مقصور على المعاني ذات
المرجعية التجريبية
فتكون ابعاد علم اللسان خمسة:
1- السنتتاكس يبقى واحدا وهو منطق الترميز عامة ويحدد قواعد نظم الرسم والنغم وما
يشمل نظم الابعاد الثلاثة التقليدية في اللسان وفيه تبرز خصوصيات اللسان المتعلقة
بلغة معينة مع ما يشمل اللساني عامة.
2- الدلالة اللسانية وهي شبه دالة رياضية بين مفردات المعجم اسماء ومدلولاتها
مسميات عينية في ذلك اللسان.
3- التداول الدلالي المحيل إلى معجم الدلالة اللسانية والاحتكام فيه للمعجم
وتاريخ دلالة الالفاظ والتراكيب في ذلك اللسان.
4- المعنى الذي ليس له دلالة محددة لأنه شكل رسمي أو نغمي وهو مقصور على
"المعجم" الرياضي لأن الرياضيات هي بالاساس لسان الترميز الأكثر تجريدا
وخاصة بعد التوالج الذي حصل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر بينها وبين
المنطق.
5- التداول المعنوي الذي لا يحيل إلا إلى تمثيل لا يطابقه أبدا وهو المجال
الوحيد الغني عن التجربة لاقتصاره على الاحتكام للمنطق والقدرة عى الترجمة الممثلة
للمعاني في علاج البناء في الرياضيات القديمة والجدوى في علاج مسائل التجسير بين
اصناف الرياضيات واجناسها المختلفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق