قراءة في كتاب الإنسان ذو البعد الواحد لهربرت ماركوز - يوسف الكلاخي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 13 فبراير 2023

قراءة في كتاب الإنسان ذو البعد الواحد لهربرت ماركوز - يوسف الكلاخي

إن ما سنحاول تقديمه في هذه القراءة ليس نقدا للرأسمالية بحد ذاتها، ولا للعولمة التي حولت العالم إلى قرية صغيرة جراء التطور الذي عرفته البشرية في مجال التكنولوجيا (الشرخ الذي أحدثته التقنية بين العالم الواقعي والافتراضي)، وإنما هو نقد للمجتمع الصناعي والبرجوازي الذي تسكنه قوة رهيبة للسيطرة والهيمنة على المجتمع والسلطة والثروة والمعرفة من خلال العولمة والرأسمالية المتوحشة عن طريق تلبية الحاجات التي تتعدد بتعدد رغبات الأفراد.

إن كتاب "الإنسان ذو البعد الواحد" هو الكتاب الذي حول ماركوز من أستاذ أكاديمي اشتهر بتفسير فلسفة هيجل إلى شخصية دولية يستشهد به ويتتلمذ عليه بعض اليساريين ويعتبرونه قديسهم الفكري. غير أنه ليس ماركوز هو أول من طرق هذا الباب في نقد المجتمع الصناعي، وإنما كانت هناك محاولات ماركسية عبر عنها لينين الذي كشف عن تكون قشرة أرستقراطية على سطح الطبقة العاملة، قشرة اشترتها الرأسمالية الاحتكارية بفضل الأرباح الطائلة المجتناة من المستعمرات، واستخدمتها كي تعيق وعي البروليتاريا الطبقي، حيث اعتبر لينين هذه الظاهرة الانتهازية بأنها عارضة ومؤقتة في حياة الطبقة العاملة الأوربية ونضالها، وان تطور الطليعة الثورية كفيل بالحفاظ على نقاء الوعي البروليتاري الطبقي الثوري، لكن التاريخ اثبت أن ما وصفه لينين على انه مؤقت قد أصبح ثابتا ودائما، وان القشرة المشتراة أصبحت نواة البنية البروليتارية، غير أن ماركوز في تحليله للمجتمع ينطلق من أسس ماركسية بنيوية، وفي نفس الوقت يخالفها في كثير من الأحيان، وذلك لعدم جدوى كثير من مفاهيمها ومقولاتها كأدوات لدراسة المجتمع الصناعي المعاصر، كون هذا المجتمع قد أفرغها من محتواها، نتيجة الدمج الساحق للمجتمع لكل البنى وتداخلها الكبير فيه.

يتلخص مشروع ماركوز من خلال كتابه في الإجابة على السؤال التالي: لماذا لم تقم الثورة في البلدان الصناعية المتقدمة؟ وعلى وجه التحديد في البلدان التي افترضت النظرية النقدية الكبرى (الماركسية) بل لماذا باتت شبه مستحيلة في عالم يمتلك منذ أكثر من قرن القوة الكلاسيكية للثورة أي البروليتاريا.

ينطلق ماركوز للإجابة على هذا السؤال من الطاقة الهائلة التي يملكها المجتمع المعاصر، مجتمع التكنولوجيا والصناعة المتقدمة، وما تحقق له هذه الطاقة من سيطرة وهيمنة على الفرد تتجاوز كل أشكال السيطرة التي مارسها المجتمع على أفراده في الماضي، والتي كانت على مر العصور تتم بشكل لا عقلاني، الأمر الذي أتاح للإنسان القدرة على الاحتجاج والمطالبة بالتغيير، أما الآن فان السيطرة الاجتماعية في عصر التقدم التكنولوجي، تتلبس طابعا عقلانيا، حيث تكمن عقلانية هذا المجتمع في القدرة التي يمتلكها بفضل التطور التقني على استباق كل مطالبة بالتغيير الاجتماعي وعلى تحقيق هذا التغيير تلقائيا، بحيث يصبح المنهج النقدي هو ذاته لا عقلانيا حين يطالب بتغيير مجتمع يثبت القدرة الدائمة على تنمية الإنتاجية ويوفر لأعضائه حياة الرغد والرفاه. يقول ماركوز "أن قوة المجتمع ذي البعد الواحد تكمن في طابعه اللاعقلاني، ويضرب مثلا بقوله" أن انقسام المجتمع إلى طبقات يستغل احدها الأخر، هو احد المظاهر الأساسية للاعقلانية، لكن هذا المجتمع يقوم بتمويه ذلك ليبدو احد مظاهر التلاحم الطبقي، كأن يقوم العامل ورب العمل بمشاهدة نفس برامج التلفاز، أو أن ترتدي السكرتيرة نفس ملابس ابنة صاحب العمل الأنيقة، وان يركب الزنجي الذي لا حقوق مدنية له سيارة الكاديلاك الفارهه"،

إن مجتمع الحضارة الصناعية يسير قدما نحو تحقيق التلاحم الاجتماعي الداخلي واستعباد كل شكل من أشكال التناقض والتجاوز والتعالي ومن هنا كان هذا المجتمع مجتمعا أحادي البعد. ولكن هل الحاجات التي يلبيها المجتمع هي حاجات حقيقة أو كاذبة؟ حاجات إنسانية حقا وتلقائية أم حاجات مصطنعة ومفروض فرضا؟ إن الجواب بالنسبة لماركوز لا يقبل إلتباسا: إنها حاجات وهمية من صنع الدعاية والإعلان ووسائل الاتصال الجماهيري، وإذا كان المجتمع يحرص على تلبية هذه الحاجات المصطنعة فليس ذلك لأنها شرط استمراره ونمو إنتاجيته وحسب، بل أيضا لأنها خير وسيلة لخلق الإنسان ذو البعد الواحد. وما الإنسان ذو البعد الواحد إلا ذاك الذي استغنى عن الحرية بوهم الحرية، والحقيقة بالخيال والواقع بالصورة، والروح بالجسد، وإذا كان هذا الإنسان يتوهم بأنه حر لمجرد أنه يستطيع أن يختار بين تشكيلة كبيرة من البضائع والخدمات التي يكفلها له المجتمع لتلبية حاجاته، فما أشبهه من هذه الزاوية بالعبد الذي يتوهم بأنه حر لمجرد أنه منحت له حرية اختيار سادته.

كما اعتبر ماركوز الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في تنميط الإنسان فالتكنولوجيا في نظره هي علم تحويل الأشياء إلى أدوات مروضة لاستغلالها لأغراض اجتماعية وحضارية، أنها فن غزو الطبيعة والتغلب علي مقاومتها الخرساء، من هنا تلعب دورا تقدميا على حد قول ماركوز، أما في المجتمع الأحادي البعد فإنها كما يردف ماركوز قد أصبحت الشكل العالمي للإنتاج المادي، وهي القوة الكلية المحددة لحياة العصر وثقافته، في ظل مجتمع طبقي قمعي اضطهادي، فان منطقها وهو منطق سيطرة الإنسان على الطبيعة، يصبح المنطق المحدد للعلاقات الاجتماعية أيضا فبدل أن تكون قوة تحررية أصبحت عقبة أما تحرر الإنسان بتحويلها البشر إلى أدوات مسيطر عليها، فتكون عقلانية اللاعقلانية في التكنولوجيا أنها لا تجعل تحرر الإنسان غايتها الأولى، لان الواقع التكنولوجي الراهن هو واقع استعباد الإنسان وتشيؤه وتحوله إلى أداة لا واقع تحرره كما يعتبر ماركوز أن التكنولوجيا سياسة قبل أن تكون أي شيء آخر، لان منطقها هو منطق السيطرة والهيمنة، ولأنها تخدم سياسة القوى الاجتماعية المسيطرة في الوقت الراهن.

لم يكتفي المجتمع بتزييف الحاجات المادية في نظر ماركوز، بل قام بتزييف الحاجات الفكرية، وذلك على قاعدة كون الفكر هو العدو اللدود للمجتمع المسيطر، فهو قوة العقل النقدية السالبة والمحركة باتجاه ما يجب أن يكون لا ما هو كائن، ويقصد بهذه القوة الايديولوجيا التي يقوم المجتمع ذي البعد الواحد بتحقيرها وازدرائها باسم عقلانية التكنولوجيا، مستبدلا إياها بالمدنية التقنية كايدولوجيا أي هي(صيرورة عملية الإنتاج) لتصبح هي ذاتها أيديولوجيا المجتمع، حيث يقول ماركوز " إن الجهاز الإنتاجي والسلع والخدمات التي ينتجها تفرض النظام الاجتماعي من حيث انه مجموع، فوسائل النقل والاتصال الجماهيري وتسهيلات المسكن والملبس والإنتاج المتعاظم لصناعة أوقات الفراغ والإعلام، هذا كله يترتب عليه مواقف وعادات مفروضة وردود أفعال فكرية وانفعالية، تربط المستهلك بالمنتج بصورة محببة، ومن ثم تربطهم بالمجموع، إن المنتجات تكيف الناس مذهبيا وتشرطهم، وتصنع وعيا زائفا عديم الإحساس بما فيه من زيف"

كما ينظر ماركوز في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد إلى أن عالم الحضارة الصناعية المتقدمة عالما استبداديا توتاليتاريا (كليا)، له القدرة على وأد أي محاولة لمعارضته بل وعلى دمج القوى الاجتماعية والاستنفار وتعبئة جميع طاقات الإنسان(الجسدية والروحية، القوى الاجتماعية ) لحمايته والذود عنه، وهنا يأتي دور السياسة، حيث السلطة السياسية لها مطلق السلطة على الصيرورة الميكانيكية وعلى التنظيم التقني، ويقول ماركوز "أن الأنظمة الأكثر ديكتاتورية في التاريخ فشلت في النهاية في إلغاء البعد النافي لها، في حين نجحت الأنظمة الديمقراطية المتقدمة صناعيا في إلغاء ذلك البعد، ويلاحظ هذا من خلال توجه تلك الأنظمة إلى نظام الحزبين، الذين يمثلان قطبي تعارض المجتمع، وهو تعارض وهمي لامتصاص المعارضة الحقيقية، حيث تنعدم القدرة على التمييز بين برامج الحزبين السياسية الداخلية والخارجية، وعلى سبيل المثال يمكن ملاحظة ذلك في نظام الحزبين في(بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية)، ويأتي ذلك لقطع الطريق على القوى الاجتماعية التي يمكن أن تكون عامل التغيير في المجتمع، ومن هنا عجزت الأحزاب الثورية بل وانزلقت نحو الانتهازية والإصلاحية والاندماج المتعاظم بالنظام القائم بدل أن تعمل على التغيير، ويضرب ماركوز مثالا على ذلك بوضع الحزبيين الشيوعيين في ايطاليا وفرنسا. هذا وتحوز الدولة (السلطة السياسية) على مكونيين أساسيين لأبطال أي مفعول للمعارضة، بكونها دولة رفاه، تعمل دوما على خلق حاجات مصطنعة للناس ومن ثم تلبيها، أما المكون الثاني فهو أنها دولة حرب دائمة، تستنفر كل القوى لمواجهة الخطر الدائم والمهدد لها (كالحرب النووية أو الغزو الخارجي وخطر الشيوعية)، حيث تعمل دوما على التذكير بذلك الخطر لكبح ودمج القوى التي لم يستطع الجهاز قمعها ودمجها، وبذا يكون منطق السياسة منطق الهيمنة والسيطرة.

وكما السياسة تلعب الثقافة دورا كبيرا في تصفية العناصر المعارضة وتزويد الفرد بضمير مرتاح وسعيد، حيث يقوم المجتمع الأحادي البعد بواسطة وسائل الاتصال الجماهيري وطاقتها الهائلة على دمج قيم الواقع الثقافي بالواقع الاجتماعي وإعادة توزيعهما على نطاق واسع تجاري، بحيث تصير الثقافة مجرد بضاعة، تصبح فيه الموسيقى تجارية أو قابلة للتتجير وينسحب هذا على الأدب والفن اللذين كانا دوما بعدا متعاليا والرفض الأكبر للواقع، بل إن الغريزة الجنسية فقدت هي الأخرى تساميها لتصبح مجرد نعرة بحاجة إلى تلبية على نحو سريع ومباشر مئة بالمئة، فمع أنه يتاح مجال واسع في المجتمع التكنولوجي لتلبية الغريزة الجنسية إلا إن مبدأ اللذة يواجه تقلصا وانكماشا، ليصبح الجنس هو الأخر ذو بعد واحد حيواني، هذا وينسحب ما سبق على اللغة نفسها بجعلها لغة ذات بعد واحد تخلو من المفردات والأفكار والمفاهيم النقدية ، حيث يجعل محترفي السياسة وصناع الرأي العام (صحافة وإذاعة وتلفاز) اللغة عارية من التوتر والتناقض والتطور والصيرورة، لتكون لغة سلوكية بلا تاريخ أو أبعاد لغة مقفلة ومنغلقة.

رغم المسافة التي تفصلنا عن كتابة مؤلف "الإنسان ذو البعد الواحد" إلا أنه يزال حاضرا بقوة على المستوى المعرفي والفلسفي، ولازال حاضرا بقوة دقته في تحليل واقع المجتمع الصناعي الذي دجنته الآلة والتكنولوجيا وأرجعته مجرد شيء بعدما كان سيد نفسه ومركز الكون بلغة ديكارت. لقد اعتبر ماركوز من خلال النقد الذي وجهه للمجتمع الصناعي والرأسمالي بأنه مفكر طوباوي، بل رجعي يعود بعجلة الحضارة إلى الوراء ليمارس طقوس عبادته في محراب عصر بائد لم يكن فيه الآلة التكنولوجيا قد ظهرت بعد إلى الوجود. إن ماركوز يحتج على الواقع الراهن للتكنولوجيا والعقلانية، من حيت أنها لا تجعل من تحرر الإنسان هدفها، ولأن الواقع التكنولوجي الراهن هو واقع استعباد الإنسان وتشيؤه وتحويله إلى أداة. "إن الإنسان لن يتحرر من التكنولوجيا إلا بواسطة التكنولوجيا وعن طريق تحرير التكنولوجيا (كيف ذلك).

إن هذا التناقض الظاهر لا يمكن حله إلا إذا فهمنا أن التكنولوجيا في نظر ماركوز سياسة، فقبل أن تكون أي شيء آخر، هي أولا سياسة منطقها الأول منطق السيطرة، والسياسة تفرض وجود سائسين ومسوسين، وهي سياسية لأنها تخدم سياسة القوى الاجتماعية المسيطرة في الوقت الراهن.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق