أوراق الأشجار خارج نافذتي تبدو رائعة بشكل استثنائي،
إنها كغريب تقترب مني، بعد ظلام طويل من الاستغراق في الذات والخوف والخجل من
حياتي التي أعيشها. تلك الأشياء جميلة، لأنها لا تعتمد على كوارثنا، وبإستمرار
تحافظ على دقتها العملية، ووفرتها الإبداعية التي تحققها دون جهد، والتي هي من
سمات وخصوصية الطبيعة.
الطبيعة هذا الصباح تبدو رائعة جداً، حيث يمكن تحديدها
بأنها ذلك الشيء الذي يوجد دون شعور بالإثم، إن أجسادنا في الطبيعة، أحذيتنا
وأربطتها بطرفها البلاستيكي الصغير. كل شيء بتعلق بنا وما حولنا في الطبيعة، ومع
هذا فإن ثمة شيء ما يبعدنا عنها، كتيار الماء المندفع للأعلى والذي يمنعنا من
ملامسة القاع الرملي وهو يتضلع ويضيء بأجزاء هلالية من قشرة المحار، الواضحة جدا
لعيوننا.
طائر أبو زريق(1) يحط على الغصن خارج نافذتي، إنه يبدو
ثابتا للحظات وهو يقف برجليه المنفرجتين، قائمتاه الخلفيتان باتجاهي، رأسه ساكن
تقريباً في صورته الظلية، الإنحاء المفترس لمنقاره منطبعاً في الفضاء الأبيض فوق
المستنقع المضبب الداكن، إنظرْ له، إنني أراه، مانعاً نفسي من متابعة سلسلة
أفكاري. مددت يدي عبر الزجاج ومسكته وطبعته على الورقة، الآن اختفى، ومع ذلك ثمة
بضعة سطور، في الأعلى أنه ما زال منفرج الرجلين، كفله الأسمر، رأسه متجمد، خدعة
رائعة و ربما غير مفيدة، لكنها خاصتي.
أوراق العنب حينما لا تكون متداخلة في ظلال بعضها أنها
ذهبية، أوراق كامدة اللون، تأخذ ضوء الشمس دون أن تعكسه، محولة الضوء المحض بجموع
أطيافه ومصدره الحياتي، إلى باستيل أصفر كالذي يستخدمه الأطفال في ألعابهم. هنا
وهناك ثمة ذبول تحولي، وذلك المتبقي يشع في لون برتقالي متوهج واللون الأخضر
للأوراق التي لا زالت طرية، يواصل إخضراره حتى الخريف. إذا تطلعنا محدقين عبر ضوء
الشمس فإننا نرى الخضرة الشاحبة للعروق الدقيقة. ظلال هذه الأوراق تسقط على بعضها،
وبالرغم من أنها مضطربة وغير منتظمة في الريح التي ترسل خشخشة كانسة ومسرعة عبر
السقف، ومع هذا أنها مختلفة وواضحة إلى حد ما، منطوية على عدد لا يحصى من
الإيحاءات المتوحشة، سيوف، أجسام ناتئة، رماح بحواف بارزة متشعبة وخوذ مخيفة، على
أية حال في النتيجة النهائية أنها غير شريرة. بل على العكس ان تعقيدها يوحي
بالإيواء والانفتاح.
الدفء والنسيم يدعواني إلى الخارج، عيناي ترتادان
الأوراق في البعيد، إنني محاط بالأوراق، أشجار السنديان بأكف صغيرة من اللون
البرتقالي، أشجار الدردار بأرياش ضئيلة من الأصفر المبهج، أشجار السماق بلون وردي
متوحش. إنني مأخوذ بالهدوء والكون متوهجاً بالأوراق. ومع ذلك فإن شيئاً ما يجرني
للوراء، عائداً بي إلى عتمتي الداخلية حيث الإثم هو الشمس.
الأحداث بحاجة إلى إيضاح، لقد أخبرت بأنني أتصرف بعبث
وهذا يحتاج إلى وقت لدمج هذا التعبير الجمعي مع حقي التام في القيام بأفعالي
الخاصة، على أية حال، اعترف بأنني أخطأت، الأفعال تجسدت، ومتى ما توضحت الأحداث
فإن الأفعال تكون لها دوافعها، وتعطى المواقف النفسية للممثلين، الأخطاء ستضاف
والشذوذ سيسمى، وإن كل النمو الصاخب والغير معتنى به سيشذب بواسطة الشرح وأصول
النمو المتجذرة في التاريخ، ثم يعود ثانية كما كان، إلى الطبيعة. ماذا إذن؟ أليس
هكذا رجوع زائف؟ أبمقدور أرواحنا دخول ملاذ زمن الفناء والغرق برباطة جأش بين
انحلال الأوراق؟ لا : إننا نقف في تقاطع مملكتين وليس ثمة تقدم أو تقهقر، فقط حافة
مستدقة حيث نقف.
أتذكر بوضوح حاد سواد ثوب زوجتي عندما غادرت منزلنا
لتحصل على الطلاق، كان الثوب من الساتان الأسود الناعم وبتطريز عند الرقبة، وكانت
هيلين تبدو فاتنة فيه، إنه ينسجم وشحوبها، هذا الصباح خاصة كانت رائعة، كان وجهها
أشهب كلياً ومتعباً، ومع ذلك بقي جسدها ذلك الشيء العائد للطبيعة متجاهلاً
كارثتنا، وظل مظهرها وإيماءاتها اعتيادية دون تنافر، قبلتني بشكل خفيف وهي تغادر،
وكلانا شعر بأن دعابة هذه الرحلة غير فعالة، بعكس أية رحلة من رحلاتها إلى بوسطن
لحضور السمفونية أو إلى بانويت، كانت تتحرك بنفس طريقتها في البحث عن مفاتيح
السيارة، الإرشادات السريعة لحاضنة الأطفال نفسها، إمالة رأسها المندفع وهي تجلس
وراء مقود السيارة نفسها.
في النهاية كنت راضياً، مطلقاً، دارساً وضع أطفالي بعيني
شخص تركهم، فاحصاً منزلي كشخص يسترجع لقطات فوتوغرافية لزمن لا يستعاد، سائقاً
سيارتي حول الحديقة المتعطفة مثل رجل يرتدي سترة واقية ويقطع طريقه عبر النار، كنت
أتوقع بأن زوجتي تبكي إلّا أنها كانت تبتسم، مذهولة إلا أنها جريئة، وأحسست برعب
لم اقدر على إيقافه، العتمة الداخلية مزقت أحشائي وأحاطت بنا كلانا وأغرقت حبنا.
ارتد قلبي للوراء، وما زال، لقد تقهقرت، العالم الطبيعي
الذي انوجد فيه حبنا كفّ عن الوجود، عدت بسيارتي، أوراق الأشجار على امتداد الطريق
أخبرتني عن أشكالها. ليس ثمة قصة لتقال، عبر التلفون مسكت ظهر زوجتي، وسحبتها من
سواد ثوبها ناحيتي، ثم استعددت للألم. الألم لم يتوقف عن المجيء، كل يوم تقريبا،
حصة جديدة تأتي بالبريد، أو بواسطة وجه ما، او بالتلفون، كل يوم لم يتوقف الهاتف
عن الرنين، كنت أتوقعه ان يفكّ بعض الاشتباك الجديد للنتائج، جئت للاختفاء في هذا
النزل، ولكن حتى هنا، ثمة هاتف، وأصوات الريح وغصون الأشجار الآزة، وحيوانات غير مرئية
مشحونة بصمتها الكهربائي، ففي أية لحظة قد تنفجر آلامي وسيُحجب الجمال الغريب
للأوراق ثانية.
بعصبية نهضت ومشيت عبر الأرضية، عنكبوت أبيض نجمي الشكل
يتعلق في الهواء أمام وجهي، تطلعت إلى السقف فلم أقدر أن أرى أين كان يعلق خيطه،
كان السقف من الجص الناعم، العنكبوت توانى، لقد شعر بحضور جسم غريب ضخم، أرجله
البيضاء البديعة امتدت باحتراس وبوزنه الخاص كان يتعلق مدوّما حول خيط لا مرئي.
اصطدت نفسي أقف بطريقة طريفة وعتيقة الطراز لمخرّف(2)
ناشداً أن يتعلم درساً من العنكبوت وصرت واعياً لنفسي، ثم أقصيت وعيي النفسي وحضرت
بشكل جاد هذه اللحظة.. النجمة الممفصلة والمعلقة بشكل مدبب أمام وجهي، عاجزاً عن
قراءة الدرس، العنكبوت وأنا كنا متجاورين لكننا متعارضين كونياً، عبر الفجوة التي
تفصل بيننا نشعر بالخوف فقط، الهاتف لم يرن. العنكبوت أعاد النظر في دورانه، الريح
واصلت تحريك ضياء الشمس، في التمشي خارج النزل طبعتُ الأرضية ببضع أوراق ميتة
انضغطت بتسطح كقصاصة كامدة اللون. وماذا تكون هذه الصفحات سوى أوراق. لماذا
أنتجها؟ لا لشيء سوى لتندفع بواسطة الخلق الذاتي إلى الطبيعة، حيث لا إثم.
الآن المستنقع يمتد كسجادة، إنه مخطط باللون الأخضر
الداكن وسط مسحة من اللون البني، الأصفر، الأحمر، الأسمر، الكستنائي، وفي الجانب
البعيد، حيث الأرض ترتفع فوق مستوى المياه، الأشجار دائمة الخضرة تقتحم الفضاء
بتجهم، وخلفها ثمة هضبة زرقاء اللون منخفضة، في هذا الإقليم الساحلي، الهضاب
متواضعة جداً لدرجة أنها لا تحمل أسماء، لكني أراها للمرة الأولى خلال شهور، إنني
أراها كأصابع طفل تتشبث بجدار عال وخشن بينما رقبته ممدودة وهو ينظر إلى سقف أحد
البيوت.
تحت نافذتي يبدو المرج أخضر وبأعشاب هزيلة وهو يمتزج
بالأوراق المتساقطة من شجرة الدردار الصغيرة، إنني أتذكر كيف جئت في المرة الأولى
لهذا النزل، مفكّراً بأنني تركت منزلي ورائي، ذهبت للسرير وحيداً وشرعت في
القراءة، كشخص يقرأ كتباً متفرقة في منزل مستعار، بضع أوراق من طبعة قديمة ل(
أوراق العشب)، كان نومي متقلباً، لدرجة إنني خلال اليقظة شعرت كأنني ما زلت أقرأ
في الكتاب، ضوء السماء يرتجف عبر الأغصان العارية لشجرة الدردار الفتية، يبدو أنها
صفحة أخرى لوالت ويتمان، ومن ثم كنت متفتحاً بشكل كلي وضائعاً كامرأة مشبوبة
العاطفة، حرة وواقعة في الحب، دون ظل في أي زاوية من كينونتي، كانت يقظة رائعة،
ولكن في الليلة القادمة عدت إلى منزلي.
الظلال المتوحشة الجاثمة على أوراق العنب انتقلت، وزاوية
الرؤية تبدلت، إنني أتخيل الدفء يتكأ على الباب، أفتح له الباب لأدعه يدخل، ضياء
الشمس بتسطح يسقط على قدميّ كشخص نادم.
_________
1--
طائر صغير ازرق اللون من فصيلة الغراب، إلّا أنه اصغر
حجما منه( المترجم).
2- -واضع الخرافات على السنة
الحيوانات( المورد).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق