ذٰلِكَ ٱلْشَّرَكُ ٱلْاِرْتِدَادِيُّ: يَقِينِيَّاتُ ٱلْشَّكِّ أَمْ شَكِّيَّاتُ ٱلْيَقِينِ؟ (2) - غياث المرزوق - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأحد، 5 مارس 2023

ذٰلِكَ ٱلْشَّرَكُ ٱلْاِرْتِدَادِيُّ: يَقِينِيَّاتُ ٱلْشَّكِّ أَمْ شَكِّيَّاتُ ٱلْيَقِينِ؟ (2) - غياث المرزوق


كَمْ مِنَ ٱلْعُمْرِ وَٱلْعُمْرِ يَقْضِي ٱلْمَرْءُ ذَائِدًا عَنْ أَفْكَارِهِ ظَنِينًا،  قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ أَنَّهُ لَمْ يَذُدْ إِلاَّ عَنْ أَفْكَارٍ أَنْبَتَهَا بِعَقْلِهِ آخَرُونَ يَقَينًا؟ 

 بِيرْتْرَانْدْ رَسِلْ 


قُلْنَا بحزمٍ إنَّهُ لا خلافَ مبدئيًّا على كلِّ ما سَبَقَ ذِكْرُهُ في القسمِ الأوَّلِ من هٰذا المقالِ بتاتًا: في الوجهِ الخَبيثِ المقابلِ (للوجهِ الحَميدِ أو السَّليمِ) من قضيةِ ما يُفْضِي إلى تعدُّديةِ الشخصيةِ الواحدةِ، يدافعُ السُّفَهَاءُ والمُراؤونَ والمتملِّقونَ والمتزلِّفونَ عن شَخْصِ الطاغيةِ العَتيِّ المَعْنِيِّ (كمثلِ بشار الأسد، على سبيلِ التمثيلِ) تشويهًا وتشنيعًا لوجهِ الحقيقةِ، ويتيحونَ من ثمَّ لتلك السِّفْلَةِ، أو تلك الحُثَالةِ، منهمْ أنْ يحملوا ما يتيسَّرُ وما يتعسَّرُ لهُمْ من «مشاعِلِ» الثورةِ المُضَادَّةِ، إلى أجلٍ مَسَمًّى، حتى لو كانوا يشُكُّونَ أو يُوقِنونَ أنَّ هٰذِهِ الثورةَ المُضَادَّةَ عينَها لا تعدُو، في واقعِ الأمرِ، أنْ تكونَ طورًا مذمُومًا من أطوارِ الثورةِ الشعبيةِ (الكونيةِ) ذاتِها، طورًا محْتُومًا زمَانيًّا ومحْسُومًا مكانيًّا مهما امتدَّ زمَانُهُ ومهما اتَّسَعَ مكانُهُ، طورًا محْمُومًا ومسْمُومًا لا بُدَّ لهُ، من كلِّ بُدٍّ، من أنْ يسْعَى إلى حَتْفِهِ بِأظْلافِهِ، حينما تندلعُ ألْسِنَةُ اللَّهَبَانِ الخَبيءِ من جديدٍ عاليًا عاليًا، وحينما تُعْلِنُ هٰذِهِ الألْسِنَةُ بسَعِيرِها العَارمِ إرْهاصَاتِ الطورِ القَرَاريِّ الأخيرِ، طورِ الحَسْمِ الثوريِّ الذَّخِيرِ، شاءتْ أرجاسُ تلك السِّفْلَةِ، أو تلك الحُثَالةِ، ومَنْ تكنُّ الوَلاءَ لهُمْ من لفيفِ أسيادِهَا الطُّغَاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ، أمْ أبتْ. غيرَ أنَّ ذٰلِكَ الجَدَلَ التَّنَافَوِيَّ بينَ الشَّكِّ واحْتمالِ كونِهِ «جَحِيمًا» وبينَ نقيضِهِ اليَقِينِ وتَعَذُّرِ، أو حتى اسْتحالةِ، كونِهِ «نَعِيمًا» لا يُؤخذُ هٰكذا على عِلاَّتِهِ بذينك التبسيطِ والاختزالِ المُفرطَيْنِ اللذينِ أشارَ إليهما الكاتبُ الصِّحَافيُّ «القُدْسَاوِيُّ» المُتَمَرِّسُ المَعْنِيُّ ذَاتُهُ ناقدًا وسَاخرًا في مقالهِ الآنفِ الذِّكْرِ «جَحِيمُ الشَّكِّ أمْ نَعِيمُهُ؟» (القدس العربي، 26 أيار 2018)، حتى لو كانتْ هٰذِهِ الإشارةِ المقصُودةُ قد شملتْ، بادِئَ ذي بدْءٍ، مدى أفقيَّةِ الرؤيةِ الأحاديةِ المعنيَّةِ، في حدِّ ذاتِهَا، ومدى غنائيَّةِ هٰذِهِ الرؤيةِ إلى العالَمِ وإلى التاريخِ، على حدٍّ سَوَاءٍ. 

قبلَ كلِّ شيءٍ هَا هُنَا، «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، و«مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، أنَّ الكاتبَ الصِّحَافيَّ «القُدْسَاوِيَّ» المُتَمَرِّسَ المَعْنِيَّ لدى تجشُّمِهِ عناءَ الموازنةِ المنهجيةِ الموضوعيةِ العابرةِ بينَ رينيه ديكارت وطه حسين، من طرفٍ، وبينَ رينيه ديكارت وابنِ خلدونٍ، من طرفٍ آخرَ، قد أساءَ الفهمَ، كلَّ الفهمِ، لمَا يعنيهِ ومَا يبتنيهِ مبدأُ الشَّكِّ الديكارتيِّ، أو مَا يسمِّيهِ ديكارت نفسُهُ بمبدأِ «الشَّكِّ الإغْراقِيِّ» Le Doute Hyperbolique، ذٰلك المبدأِ الذي يقصدُ من الشَّكِّ فَحْوَاهُ الفلسفيَّ الكُلِّيَّ في أعلى مَرَاتبِهِ وفي أقصى مَرَاميهِ – تمامًا مثلما يعنيهِ الإغراقُ (والغُلُوُّ) في الشَّكِّ في كلِّ شيءٍ بالمعنى الحرفيِّ، إلى أنْ يصلَ هٰذا الشَّكُّ إلى شيءٍ من الأشياءِ لا شَكَّ معقولٌ فيهِ ولا حتى شَكَّ ممكنٌ فيه. بجَلِيِّ العبارةِ، من هنا، وأيَّةً كانتْ شدَّةُ الصِّراعِ بينَ ثقافةِ التشْكيكِ الرَّائزِ وثقافةِ التعْليبِ الجاهزِ، فإنَّ ماهيةَ «الشَّكِّ الأدبيِّ» الذي كانَ في القُلوبِ العِجَافِ «رذيلةً» إبَّانَ صُدورِ كتابِ طه حسين «في الشِّعْرِ الجَاهِليِّ»، والذي صارَ في العُقولِ العِفَافِ «فضيلةً» بعدَ عُقودٍ مديدةٍ من صُدورِ هٰذا الكتابِ بفضلِ تطوُّرِ الوَعْيِ والإدراكِ العربيَّيْنِ، لَمَاهيةٌ ليستْ لها ايَّةُ علاقةٍ قريبةٍ أو بعيدةٍ بماهيةِ «الشَّكِّ الفلسفيِّ» الذي رامَهُ ديكارت من خلالِ تفْعِيلِ قَوْلَتِهِ الشَّكِّيَّةِ الشهيرةِ «أنا أُفَكِّرُ، إذنْ أنا مَوْجُودٌ»، أو حسبما يفضِّلُ التعبيرَ عنها هو ذاتُهُ باللغةِ اللاتينيةِ (الفُصْحى)، على النحْوِ التالي: Cogito Ergo Sum. فشتَّانَ بينَ تلك التَّسَاؤلاتِ اللافلسفيةِ المُسَطَّحةِ التي طرحَها «الفيلسوفُ» الأوَّلُ حولَ لغةِ الشعرِ الجاهليِّ وزمنهِ ونَسَبهِ، من جهةٍ أولى، وبين تلك المُسَاءَلاتِ الفلسفيةِ المُعَمَّقةِ التي أثارَها الفيلسوفُ الأخيرُ حولَ حقيقةِ الشيءِ الواقعيِّ وحولَ كُنْهِهِ ولُغْزِهِ، من جهة أخرى. وشتَّانَ بينَ «الشَّكِّ الأدبيِّ» الذي لم يأخذْ من الشَّكِّ سوى اسميَّتِهِ الظاهريةِ مقترنةَ ببحثٍ أكاديميٍّ محدَّدٍ كانَ نَسْخًا حرفيًّا، أو مجازيًّا، لما انتهجَهُ المستشرقُ البريطانيُّ ديڤيد صامْويل مارْغُولْيَاوْثْ، من ناحيةٍ أولى، وبين «الشَّكِّ الفلسفيِّ» الذي كانَ يبتغي بمنطقِهِ الرياضيِّ بُلوغَ النقيضِ اليقينيِّ المُطْلَقِ لهٰذا الشَّكِّ، منفصلاً بذٰلك عمَّا انتهجَهُ ابنُ خلدونٍ نفسُهُ من منهجيةٍ تاريخيةٍ تطوُّريَّةٍ (حلزونيةٍ)، تلك المنهجيةِ التي طوَّرَها من بعدهِ بزمنٍ مديدٍ الفيلسوفُ التاريخيُّ الإيطاليُّ جِيامْباتيستا ڤيكو، من ناحيةٍ أُخرى.

مرَّةً ثانيةً، «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، و«مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، أنَّ الفذَّ ابنَ خلدونٍ كانَ، من خلالِ نظرَتِهِ السَبَبِيَّةِ (الشَّكِّيَّةِ التي تختلفُ أيَّما اختلافٍ عنْ شَكيَّةِ الإغراقِ والغُلُوِّ)، كانَ يستدعي كافَّةَ القرائنِ التاريخيةِ الممكنةِ والمحتمَلةِ، وكانَ يُقاربُ من ثمَّ الأقربَ منها إلى الصِّحَّةِ والصَّحَاحِ، مثلما عُرِفَ عنهُ أيَّامَئِذٍ. لكنَّ ابنَ خلدونٍ لم يكنْ يَشُكُّ الشَّكَّ المنشودَ في كلِّ شيءٍ، وذلك بسببٍ ممَّا كانَ يرغبهُ، أو لا يرغبهُ، من مُيُولِهِ الأشعريةِ، والأشعريةِ التقليديةِ منها، كما يؤكِّدُ الكثيرُ من الباحثينَ والمنظِّرينَ، في هٰذا الصَّدَدِ – وهٰذا الموقفُ الدينيُّ (الخفيفُ)، في حدِّ ذاتِهِ، ليسَ مصدرَ «زَلَلٍ» علميِّ فادحٍ في مجتمعٍ أبويٍّ ذُكُوريٍّ بدأ الطُّغيانُ السياسيُّ يتغَلْغَلُ في كلِّ ثَنِيَّةٍ من ثناياهُ، وفي كلِّ خَلِيَّةٍ من خلاياهُ. ديكارت، من طرفِهِ، كانَ فعلاً يَشُكُّ الشَّكَّ المنشودَ في كلِّ شيءٍ: كانَ يَشُكُّ حتى في وُجُودِهِ في اليَقَاظِ وفي المَنَامِ، وكانَ يَشُكُّ حتى في دَرَجَاتِ غبطتِهِ وفي دَرَكَاتِ شُجُونِهِ، وكانَ يَشُكُّ حتى في وَمَضَاتِ عبقريَّتِهِ وفي لَحَظَاتِ جُنُونِهِ. إنَّ الشيءَ الوحيدَ الذي لمْ يَكُنْ ديكارت يشُكُّ فيهِ، على الإطلاقِ، لأنَّهُ كانَ على يقينٍ مُطْلَقٍ منهُ، ولا شَكَّ، إنَّما هو الشَّكُّ المنشودُ بعَيْنِهِ. كان يهذي سَادِرًا وسَارِدًا بِهُذَائهِ العقلانيَّ الرياضيَّ، من هٰذا الخُصُوصِ، على هٰكذا مثابةٍ: أنا أشُكُّ في كلِّ شيءٍ خَلا في فعلِ الشَّكِّ ذاتِهِ الذي أشُكُّهُ الآنَ، في هٰذهِ اللحظةِ. وبما أنَّني أشُكُّ (في كلِّ شيءٍ خَلا في فعلِ الشَّكِّ ذاتِهِ)، أنا إذنْ أوقِنُ من فعلِ الشَّكِّ هٰذا في الآنِ ذاتِهِ. وبما أنَّني أوقِنُ (من فعلِ الشَّكِّ هٰذا)، أنا إذنْ أفكِّرُ بالشيءِ الذي أشكُّ فيهِ. وبما أنَّني أفكِّرُ (بالشيءِ الذي أشُكُّ فيهِ)، أنا إذنْ أُوجَدُ حيثُ أفكِّرُ (بالشيءِ الذي أشُكُّ فيهِ)، إلى آخرهِ، إلى آخرهِ. وهٰذا الهُذَاءُ العقلانِيُّ الرياضيُّ لا يعدو أنْ يكونَ، في جوهرِهِ الشَّكِّيِّ الإغراقيِّ الكَنِينِ، برهانًا مباشرًا، أو حتى غيرَ مباشرٍ، على صِحَّةِ وصَحَاحِ مبدأٍ «مثاليٍّ» (أي منسوبٍ إلى المذهبِ المُسَمَّى بـ«المثالية» Idealism، على النقيضِ الكاملِ من المذهبِ المدعوِّ بـ«المادِّية» Materialism)، مبدأٍ يسعى بدورِهِ، من خلالِ منهجهِ الفلسفيِّ الخاصِّ هٰذا، إلى أن يبرهنَ بُرْهَانًا على أسبقيةِ الفكرِ (أو الوَعْيِ) على الوُجُودِ (أو المَادَّةِ)، كما نوَّهَ عن ذلك المفكِّرُ اللبنانيُّ حسين مروة تنويهًا في كتابِهِ الشهيرِ «النزعاتُ المادِّيةُ في الفلسفةِ العربيةِ الإسلاميةِ». وهٰذا البُرْهَانُ الشَّكِّيُّ (الإغراقيُّ)، رغمَ وُصُولِهِ إلى هٰكذا «يقينٍ»، ليسَ،  في حدِّ ذاتِهِ، يقينًا مُطْلَقًا، هو الآخَرُ. 

مرَّةً ثالثةً، «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، و«مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، أنَّ ثَمَّةَ في الكونِ يَقِينيَّاتٍ عديدةً، من جهةٍ أولى، وأنَّ ثَمَّةَ في هٰذا الكونِ شَكِّيَّاتٍ عديدةً، بلْ شَكِّيَّاتٍ لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، من جهةٍ أخرى. لنفرضْ، في سياقٍ سياسيٍّ قبيحٍ، أنَّ الاجتماعَ الثلاثيَّ الأمريكي-الروسي-الأردني الذي قيلَ إنَّهُ سيُعقدُ مُكَرَّسًا لصَوْنِ الهُدوءِ العسكريِّ في جنوبِ سوريا، لنفرضْ أنَّ هٰذا الاجتماعَ قد أفلحَ في مهمَّتهِ التكريسيةِ هٰذهِ إفلاحًا باهرًا، ولنفرضْ أنَّهُ، على النقيضِ، قد أخفقَ في مهمَّتهِ ذاتِها إخفاقًا ذريعًا. في هٰذِهِ الحالةِ بالذاتِ، في كلٍّ من طرفَيْها، هلْ هناك شَكٌّ، أو حتى أدنى شَكٍّ، في «اليقينِ» من أكاذيبِ النظامِ الأسديِّ الطائفيِّ الفُلوليِّ الذي لا يَنِي يتشدَّقُ بأوهامِ «السيادةِ الوطنيةِ»، دونَ أنْ يكونَ لهُ أيُّ دورٍ في إبرامِ الاتِّفاقِ المعنيِّ، ودونَ أنْ يكونَ لهُ حتى أيُّ تشارُكٍ في وَضْعِ أو صَوْغِ بُنودِ هٰذا الاتِّفاقِ، لا منْ قريبٍ ولا من بعيدٍ؟ – الجانبُ «السوريُّ» ليسَ لهُ فعلٌ فعليٌّ في ذاتِ الاجتماعِ، إذنْ هو غائبٌ غائبٌ؛ والجانبُ الإسرائيليٌّ ليس لهُ فعلٌ فعليٌّ في ذاتِ الاجتماعِ أيضًا، لكنَّهُ غائبٌ حاضرٌ، في حقيقةِ الأمرِ. لنفرضْ، في سياقٍ آخَرَ طبيعيٍّ أكثرَ جَمالاً بكثيرٍ، أنَّنا التقينا مَعًا في يومٍ ربيعيٍّ مُسِرٍّ ذِي أطيارٍ أخَّاذَةٍ خَلاَّبَةٍ غَنَّاءَ، يومٍ ربيعيٍّ مُشْرِقٍ ذِي سَماءٍ خَلِيَّةٍ منْ كلِّ غمامٍ صَافيةٍ كلَّ الصَّفاءِ. في هٰذِهِ الحالةِ بالذاتِ، من طرفٍ قابلٍ، هلْ هناك شَكٌّ، أو حتى أدنى شَكٍّ، في «اليقينِ» من الإجابةِ بنوعيةِ زَرَاقِ «اللونِ الأزرقِ الفاتحِ»، مثلاً، حينَ السُّؤالُ عن لونِ السَّماءِ في هٰذا اليومِ، وحينَ النظرُ إلى هٰذِهِ السَّماءِ بالعينِ البصريةِ، أو بالعينِ العينيةِ، دونَ غيرِها؟ وفي هٰذِهِ الحالةِ بالذاتِ، من طرفٍ مقابلٍ، هلْ هناك شَكٌّ، أو حتى أدنى شَكٍّ، في «الشًّكِّ» في الإجابةِ بماهيةِ زَرَاقِ «اللونِ الأزرقِ الفاتحِ» ذاتِهِ، حينَ السُّؤالُ ذاتُهُ عن لونِ السَّماءِ في هٰذا اليومِ، وحينَ النظرُ إلى هٰذِهِ السَّماءِ بالعينِ العقليةِ، أو بالعينِ العلميةِ، هٰذِهِ المرَّةَ؟ – فالسَّماءُ ذاتُ البُرُوجِ، أيًّا كانتْ تلك البُرُوجُ واقعًا، لا لونَ لَهَا، في واقعِ الأمرِ. 

مرَّةً رابعةً وأخيرةً، «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، و«مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، أنَّهُ حتى في القرآنِ الكريمِ ذاتِهِ، مَثَلُهُ كَمَثَلِ أيِّ كتابٍ كريمٍ سَبَقَهُ في الزَّمَانِ وفي المَكَانِ، ثَمَّةَ شكٌّ لا ريبَ فيهِ، منْ جانبٍ أوَّلَ، وثَمَّةَ يقينٌ لا ريبَ فيهِ كذٰلك، منْ جانبٍ آخَرَ، شاءَ العَالِمُ العَلاَّمَةُ الحَصِيفُ النَّبِيهُ اللَّبِيبُ أمْ أبَى. فعلى سبيلِ التمثيلِ لا الحصْرِ، ها هنا: «مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ» (آل عمران: 7). وما «التشابُهُ»، ها هنا، سوى شكلٍ من أشكالِ «الشكِّ» أو «الرَّيْبِ» بعينِهِ، من ذاك الجانبِ الأوَّلِ، وما «الإحْكَامُ»، ها هنا، سوى نوعٍ من أنواعِ «اليقينِ» أو «اللارَيْبِ» بعينِ عينِهِ، من ذاك الجانبِ المقابلِ الثاني! ناهيكِ، بالطبعِ، عن وُقُوعِ الكاتبِ الصِّحَافيِّ «القُدْسَاوِيِّ» المُتَمَرِّسِ المَعْنِيِّ، شاعرًا أو غيرَ شاعرٍ، في الشَّرَكِ الاِرْتِدَادِيِّ في الكتابةِ عَيْنِهَا، حينما يتحدَّثُ ناقدًا وسَاخرًا عن عباراتٍ «يقينيَّةٍ» مُطْلَقَةٍ من على شاكلةِ «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، أو «مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، وحينما يستخدمُ في ذاتِ الحديثِ عباراتٍ «يقينيَّةً» مُطْلَقَةً تتشابهُ في المعنى وفي اجترارِ الفكراتِ من على هٰذه الشَّاكلةِ ذاتِها، ولكنَّها تتغايرُ في المبنى وفي اختيارِ المفرداتِ، وليسَ غيرَ ذلك. وعلى سبيلِ التمثيلِ لا الحصْرِ، كذلك، من تلك العباراتِ «اليقينيَّةِ» المُطْلَقَةِ، والجازمةِ كلَّ الجزْمِ، التي يكتظُّ بها أسلوبُهُ في المقالِ، والتي تبدأ بحُرُوفِ التوكيدِ المشبَّهةِ بالأفعالِ، ما يلي: «ما يجزمُ بأنَّ ما يتحكَّمُ في مثلِ هٰذِهِ المواقفِ هو الترصُّدُ مع سبقِ الإصرارِ»، أو «لٰكنَّ اليقينَ ليسَ نعيمًا حتى لو شعرَ مَنْ أركنوا إليهِ بذٰلك»، أو «لأنَّ الشكَّ يدفعُ إلى استدعاءِ القرائنِ»، أو «فإنَّ احتمالَ الشكِّ ليسَ ميسورًا للجميعِ»، وغيرها، وغيرها. 

وناهيكِ، بطبيعِةِ الحَالِ، عن وُقُوعِ الكاتبِ الصِّحَافيِّ «القُدْسَاوِيِّ» المُتَمَرِّسِ المَعْنِيِّ عَيْنِهِ، شاعرًا أو غيرَ شاعرٍ، في الشَّرَكِ الاِرْتِدَادِيِّ في الثقافةِ كذٰلك، حينما يتحدَّثُ واعظًا وواجسًا ومستشهِدًا بكلِّ ثقةٍ واعتدادِ نفسٍ بقولِ المُحَلِّلِ النفسانيِّ الألمانيِّ «أريش فروم» عن خوفِ الإنسانِ من حُلُولِ الحريَّةِ ذاتِهَا، وعن هُروبِهِ من هٰذِهِ الحريَّةِ لِمَا تقتضيهِ من مسؤوليةٍ كبيرةٍ، في حينِ أنَّ أريش فروم نفسَهُ كانَ قدِ استشهدَ، قَبْلَئِذٍ، بهٰذا القولِ عازيًا إيَّاهُ، بالحَقِّ والحَقيقِ، إلى مُعَلِّمِهِ الفَذِّ، المُحَلِّلِ النفسانيِّ النمسَاويِّ، زِيغْمُونْد فرويد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق