تتميز
قصص " جيوب الخوف " للقاصة المغربية سعيدة لقراري بغنى " تيماتها
"، وتنوع أبعادها الدلالية، وأدواتها التعبيرية مما يصعب معه الإلمام
بمكوناتها السردية، وما يزخر به متنها القصصي من عناصر جمالية ورمزية مما يقودنا
إلى الاقتصار على مقاربة بعض جوانبها في حدود ما تسمح به هذه الورقة في تناول لعرض
ورصد ما تحفل به نصوص المجموعة من موضوعات مصاغة في قالب قصصي ( قصص قصيرة)
بحمولات جمالية ودلالية تنم عن حس صادر عن ملكة إبداع متعددة الأشكال والأبعاد في
اكتشافها وكشفها لما يعج به محيطها القريب من اختلالات ومفارقات يتم تصويرها في
قوالب حكي متنوع المرامي والمقصديات. ولعل أهم ما يميز قصص المجموعة هو موضوع
الوباء والخوف وانتظامهما في نسق قصصي تراوح بين التقاطع والتواشج والتماهي. فقد هيمن
وباء " كورونا " على وقائع القصص ومجرياتها حيث سيطر هاجسه المشفوع
بتوجس خيم على أذهان الكثيرين،وعكر صفو مشاعرهم فوحد معاناتهم، وضاعف من منسوب
حذرهم الرهيب من تجليات وتبعات استبداده وطغيانه: " تحت نفس المظلة "كورونا " تجمعنا
" ص 15 فتتوحد الهموم، وتتساوى ووساوس المكابدة لتنال من القدرة على الصبر
والمقاومة والتحمل : " عتمة مرض قاتم تلتهمني، وتزحف على ما تبقى من بصيص
الصبر ... " ص 29، فتعلق الآمال المشوبة بالحيطة والريبة على أفق انتظار
تستنفده امتدادات الرهبة والأسى : " بمجرد حصولك على نتائج التحاليل سيحسم ما
يراودنا من شكوك بشأن مرضك ... " ص 37، ويوازي موضوع الخوف موضوع الوباء بشكل
لافت داخل نسيج الأضمومة، موازاة تنحو عدة
مناحي في ارتباطها ب " تيمة " الوباء من خلال نسج خيوط ثابت علائقي
متعدد التجليات والتمظهرات، خوف عات بتحديات لا تقهر ولا تردع : " أخاف من
خوف، من نفسه لا يخاف ." ص 11، يتكرر
( الخوف ) في عناوين ومشاهد عدة من القصص، يجترح علاقاته مع كائنات مختلفة كالقطة
في قصة ( خارج دائرة الخوف ) : " القطة شعرت بالخوف مني ... " ص 63،كما
يلتئم في صيغ وتعابير باستعمالات متنوعة كالدارجة : " على سلامتك، حرام عليك
خلعتينا .. " ص 18، لينفلت من عقال الفصحى إلى العامية ( الخلعة : الخوف )، والتعبير المجازي في العديد من
الأساليب والصيغ : " شلال من ملون أغرق به صفحة من صفحات يومياته ، فاض عن
رأسه المزدحم ... " ص11،في تنوع موحي ومعبر لصولات خوف مرعب ورهيب تساوق مع
الوباء في نسق من تماه، وتواشج تقاربت رؤاه، وتوحدت هواجسه وتداعياته عبر مسافة
تأرجحت بين استقلالية أفرزتها طبيعة معاناة استغرقها الوباء حينا، وتمازج امحت فيه
الحدود الفاصلة بين النمطية والخصوصية، وانتفت شروط النوع والموضوع : " أرى
أن هذا الحجر قَرَّب بين الكثير حد التنافر، وضع على وجه العناق كمامة، زاد من سمك
الأقنعة ... الشك يرتفع منسوبه في العيون، الكل يخاف الكل، والكل يحذر الكل ..
" ص 8، فيلتئم الكثير داخل منظومة قطباها الوباء والخوف وسط لجة من تقارب
وتباعد، تواشج وتناشز، توافق وتنافر.
فإذا كان
موضوع الوباء والخوف قد طغيا على نصوص الأضمومة، وطبعاها ببصمات تفاعل فيها الذهني
بالوجداني. الحسي بالفكري فإن هناك " تيمات" أخرى تم توظيفها عبر أدوات
حكي، وعناصر قص موسومة بالغنى والتنوع.
فقد متحت
قصص " جيوب الخوف " من وقائع محيط يعج بألوان الفاقة والعوز في تصوير
لمشاهد تطفح بشتى مظاهر البؤس كحالة مُصلِح الأواني المعدنية : " كان صاحب
الإبريقين والبراد النحاسي، يجلس مضطرا من شدة البرد على صندوق خضر خشبي فارغ ...
بجانبه علبة كرتون يضع بها آلة يدوية لِلَحْم الأواني المعدنية ... لا أحد من
المارة يدنو منه ... أويسأله على الأقل عن ثمن براد أو إبريق ... " ص 31/ 32،
حالة لا تقل فقرا وحاجة عن حالة للا يطو بائعة خبز الدار: " زمان صعاب أبنتي
.. تقول للا يطو بائعة خبز الدار" ص 32، وما يعيشه أفراد الطبقة المعوزة من
مشاكل مع التنقل حيث يتكدسون داخل ( أوتوبيس ) متآكل مهترىء في ظروف تنعدم فيها
الكرامة : " وأنا أبحث بنظراتي
المشتتة عن مقعد ألقي عليه جسدي الثقيل، لا جدوى من التنقيب على إبرة في جبل من قش
.. هذا ما أخبرتني به الأجساد المتلاصقة والتي بالكاد وجدت أين تقف .. كشرائح
سردين معلبة .. " ص 33، حيث تختلف الأوضاع الرديئة لشرائح من أفراد مجتمع يعج
بآفات اجتماعية، وأعطاب أسرية كالطلاق : " الجارة المطلقة التي عليها أن تعمل
ليل نهار لأداء ثمن فواتير الماء والكهرباء والكراء، وتلبية حاجياتها المعيشية دون
إغفال توفير ثمن الساعات الإضافية لطفلتها، حليمة التي تعاني من إعاقة على مستوى
رجلها، ولم تتابع دراستها، لأن أسرتها على قد الحال، وأبواها بحاجة إلى من يوفر
لهما أدوية لأمراض مزمنة زادها كبر السن استفحالا.. تنسج طاقيات صوفية، وتزين
الشالات .. لتحسن دخلها الهزيل تضطر أحيانا كثيرة إلى بيع السجائر بالتقسيط ..
" ص49/50، وقائع مستقاة من مجتمع تئن فئات عريضة من أفراده تحت وطأة ظروف عيش مزرية من مأكل،
وتعليم، وصحة، و سكن ... مما يفرز أوضاعا يخترمها الخلل والاعوجاج كالطلاق،
والانحراف ... مثل مشكل الإيواء كما في قصة ( خارج دائرة الخوف ) : " وأدخل
غرفتنا الوحيدة التي كنا نمتلكها في ذلك البيت الكبير الغاص بجيران اختلفت لكناتهم
.. " ص 65، وبحث أطفال في عمر الزهور داخل أكوام النفايات لتدبير جزء من
قوتهم اليومي في ظروف تختزل ألوان البؤس والضنك : " أرمق أطفالا ... منهمكين
في نبش وتقليب أكوام النفايات ... رائحة الأزبال تقوت وزاد من حدة نفاذها إلى
الأنوف حرارة الجو ... أفيض اندهاشا من حماسهم الكبير وتنافسهم في جمع أكبر عدد من
القنينات البلاستيكية، وقطع الكارتون والعلب الورقية .. " ص 85 . ليتوالى رصد وتصوير مشهديات تحتضنها بؤر
حياة تنتفي فيها الشروط الدنيا لعيش تخترم مقوماته آفات اجتماعية وأسرية
موسومة بالتفكك والهشاشة .بينما ترفل فئة في حياة السعة و الرفاه، وتنعم
برخاء العيش ونِعمه : " ذلك لم يخلصني من صورته .. خاصة وأنا أشاهد أثناء
طريقي رجالا يشبهونه يمتطون سياراتهم المكيفة، وآخرون يخرجون من عند الحلواني
محملين بعلب محشوة بالماكرون وكعب غزال.. ودفء يثرثر في عيونهم وجيوبهم على حد
سواء.. " ص 32، تأسيسا لمفارقة بين حياتين مختلفتين، ونمطيْ عيش متناقضين
يكرس مظاهر تفاوت طبقي يزداد استفحالا وتفاقما داخل مجتمع تتضاعف نواقصه وأزماته،
وتتزايد اختلالاته.
وتتميز
اللغة القصصية للمجموعة بتنوع أنماطها من مجاز : " هذا الهدوء الذي يلبس
الشوارع ... " ص 13، في تصوير لحالة الهدوء الذي يخيم على الشوارع، والتي ما
تفتأ في الابتسام : " الشارع كعادته يبتسم لها وللمارين ... " ص48، إلى
التوسل باللهجة العامية : " واااناري الرجل تْسَطا !!!" ص68، " أو
باللغة الفرنسية : " Je crois
qu’ elle suspecte.." ص 27،إلى
استخدامات لغوية تشذ عن الشائع والمألوف : غيوما تزرعني فأهطل مني غزيرة، أراقص
البرك والزخات .. " ص60 ،بإلصاق أفعال تنزاح عما هو معتاد بالإنسان كفعل (
أهطل ) المرتبط بالمطر ليغدو مقترنا بالبشر، في منحى انزياحي مختلف، و" تيمة
" الفن في جانبها الموسيقي الطربي : " بالإنصات إلى موسيقى هادئة لشوبان
مثلا أو لصوت فيروز العذب ... " ص 8، والانتقال إلى ألوان غنائية أخرى : " وهو يستمع إلى
أغاني ، ناس الغيوان، جيل جيلالة ... مارسيل خليفة أو الشيخ إمام .." ص 10،
وصوت عبد الهادي بلخياط : " وصوت عبد
الهادي بلخياط يدخل في خط الذاكرة ...
" ص 34، وما يميزه من أصالة فنية . فضلا عن اهتمام نوعي بالقراءة : "
على مكتبي ملحمة كلكامش ... غير بعيد عنها
مواء القط الأسود لإدغار آل ن بو... وضعت كتب أخرى يعلوها ديوان محمود درويش ...
" ص 24،في استعمالات تمزج بين ما هو متبع من طقوس القراءة والكتابة : "
ما تبقى من الوقت يقسمه بين قراءة كتاب
... وكتابة يومياته.. " ص 9، في شكلها المعهود، أو الحديث عبر وسائل التواصل
الجديدة : " الدردشة مع الأصدقاء عبر الوات ساب أو الميسنجر ..." ص9 .
مع الإشارة إلى أعلام، في سياق المدونة القصصية، من مختلف مجالات الفن ( التمثيل)
كإسماعيل ياسين، وشارلي شابلان، وعادل إمام، ولويس دو فينيس، والفكر كنيتشه،
وفاطمة المرنيسي، ونوال السعداوي.
لنخلص
أخيرا إلى أن قصص " جيوب الخوف " انتظم إيقاع أحداثها ووقائعها موضوع الوباء
في تساوق وتقاطع مع موضوع الخوف بحيث شَكَّلا ماهية طابعها، ورسما حدود معالمها في
نسق سردي غني ب" تيماته "، وعناصره الجمالية والتعبيرية والدلالية التي
أثرت متن المجموعة فغدا أكثر عمقا وسعة ورحابة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب : جيوب الخوف (مجموعة قصصية )
الكاتبة
: سعيدة لقراري
المطبعة
: المطبعة الوطنية ـ مراكش
/ 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق