لم يوجد شخص
فوق هذه البسيطة، حسب تخميني، ولن يولد قط مابقي الناس
واستمرت الأيام، سواء ضمن قبيلة الأحياء أو الأموات، إلا وعَبَرَت ذهنه خلال لحظة
من اللحظات، إبان سياق كوميدي أو تراجيدي؛ أو ما بينهما، فكرة أنَّ الحياة بلا
مذاق ولامعنى مستساغ، بل تعكس في نهاية المطاف واقعة غير مفهومة تثير الضجر جملة
وتفصيلا؛ عبر ممكنات لونيها الأبيض والأسود.
إحساس يغمر
أحاسيس الجميع، ويسودها جميعا في السراء والضراء، مهما كبرت أو صغرت مواقع البشر،
وكيفما توضَّبت هندسة تراتبية مراتبهم، تنتاب في غفلة سكينة سواء ذوي العقول
الاستثنائية الذين أضفوا بأعمالهم التأملية معنى على الوجود، وكذا مجرد باقي
مكونات الحشد.
يكاد يصير
أفقا عاما وطبيعيا، هذا الإحساس المتواري، لكنه الحاضر-الغائب، بالضجر الوجودي :
ماذا أفعل هنا؟ كيف جئت اعتباطا؟ ما دواعي مجيئي؟ ما جدوى ديمومة
الحياة؟ ما الحقيقة التي تخفيها هذه الحياة؟ ما الفرق بين طول الأعمار أو قصرها؟
ما التمايز بين الذين يعملون والذين لا يعلمون؟ ثم حدود التباينات الدقيقة
بين زمرة الذين يعلمون وجحافل الطحالب الماسكة على الدوام بتلابيب المياه الآسنة،
مادام كنه الحياة نفسه، ومعناها لا يختلف حسه، يبعث دوما على الغثيان،
مثلما استنتج أساسا التيار الوجودي في شقيه الملحد والمؤمن، منذ عقود طويلة، إلخ.
قد يستمر
الشخص منخرطا بكيفية دؤوبة، مطمئِنّا إلى جدوى لعبة الحياة، يستلهم للتبرير قصد
استمراره بوعي منقاد، حمولة مرجعيات مختلفة: دينية، ميتافيزيقية، أخلاقية، نفسية،
بل حتى اللا-أدرية مرتع الأغلبية، أولا وأخيرا، رغبة في التماهي – إن تحقق الأمر
بيسر و نجاعة- مع وهمية المرتكزات الأسروية واللبنات الموضوعية، قوام مختلف ذلك
ترياق النسيان، بمحاولة الابتعاد عن هاجس الوجود
المحض، ودائرة الكائن الخالص المتجرِّد، الذي يعانق بجرأة السؤال الوجودي.
بيد أنه، رغم
التضليل الظرفي ومفعول السرنمة المؤقتة، سرعان ما تحضر تداعيات
قسوة مشاعر الامتعاض، الضجر، اليأس، العبث، نحو واقعة الحياة بكل مقوماتها، فيحدث
كما المفترض في نهاية المطاف، الاصطدام بقوة وحدة الشعور الأولي نحو الوجود
باعتباره ورطة، وحادثة اعتباطية أثقلت ظلما كاهل الإنسان.
يعكس
الامتعاض من الحياة، إحساسا ماثلا بين طيات النفسيات، لا يتخلص الفرد
من أرقه سوى بالهروب أماما نحو سراديب التِّيه ضمن متاهات العالم الخارجي بسياقاته
المتعاقبة، دون توقف، مع ذلك يظل فقط متواريا بكيفية ظرفية
خلف حمولة بعيدة تماما عن التأويل المبدئي للوجود.
إذن، يبدو
مضلِّلا طرح سؤال: متى تصبح الحياة مضجرة وثقيلة بلا مذاق؟ حسب بنية الصيغة
الحالية للعبارة، بحيث تؤكد ضمنيا على ظرفية إحساس حادث عالق وقتيا ضمن حدود
متواليات زمانية معينة. غير أنه، بعد كل شيء، تستمر الحياة رتيبة قدر فظاظتها،
تبعث على الاشمئزاز والقنوط. مادامت الحقيقة الوحيدة التي يمكن بواسطتها تأطير جل
ممكناتها سواء في معطياتها المبهجة أو المحزنة.
يجد هذا
الموقف أكبر تعبيراته الدالة، ضمن سياقات علاقة الإنسان بالزمان، فالأخير بمثابة
الأيقونة السحرية الجارية عبر ألسن الجميع، تعكس حيثيات توظيفها الأسّ التراجيدي
للحياة.
عندما
يتلفَّظ الإنسان كلمة زمان، مهما تباينت طبيعة حيز كلامه، فلا
شك أنَّ وقع التعبير يثير فزعا ورعبا، لاسيما المحيل على المجهول سواء الحاضر
القريب الذي سيحل بعد حين، أو البعيد مع ترقب المستقبل. لكن هذا الزمان نفسه الذي
اكتملت هويته مع لحظة الماضي ولم يعد ينطوي على أيِّ نوع من أنواع الغموض المفزعة.
صارت أخيرا
لحظة الماضي، سكينة الكائن، طمأنينته، ملجأه
الوحيد، حصنا حصينا ضد أعاصير الحياة غير المعلومة، هكذا يتم إثراء ذلك الزمان
بمختلف معاني الجمال والملاذ الآمن.
يتخيَّل
الأحياء ماضي حياتهم المنقضي والمنتهي، جميلا عطوفا ودودا رحيما مستساغا
حنونا يجذب وجهته الحنين أبديا، اتسمت الحياة في إطاره بطعمها الحلو،
غير ماهي عليه خلال لحظة الحاضر.
ربما اندرج
هذا التصور ضمن قائمة الأوهام اللذيذة، فقط لأنّ الماضي اكتمل بناؤه وتشكَّلت
بالمطلق مختلف صوره، لذلك انعدمت معه نتيجة اكتمال المشهد شتى مبررات الغموض
ودواعي اللاطمأنينة، بينما انطوت الحياة حقيقة وباستمرار على نفس الإحساس
بالاشمئزاز، تزداد حدة توتره أو تضاؤله، بالانتقال تقدما أو ارتدادا بين لحظات
الزمان الثلاث.
الحياة التي
تمنى حقا الإنسان أن يحياها، انسابت من بين يديه دون وعي وانتقلت منذ أمد إلى
الماضي، حيث مكمن جل معاني اليقين، بينما الجارية حاليا، فهي غامضة ممتلئة بفخاخ
لامتناهية، أما المستقبلية فترمز للموت بكل بساطة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق