فيصل دراج |
يقدم
الدكتور فيصل دراج نفسه كأحد النقاد والمفكرين الفلسطنيين الأكثر جرأة وحضورا
معرفيا، فهو ناقد أدبي ومفكر ثقافي متمرس، كونه نهل من منابع الفكر الإنساني
الحديث والمعاصر، خاصة الفكر الغربي وهو الذي جاور أعلامه ومفكريه.
وقد
اشتغل فيصل دراج على جملة من الأطروحات النقدية والثقافية المرتبطة أساسا بالثقافة
العربية بأبعادها وتجليتها المختلفة، فهو الذي قدم دراسات كثيرة ناقش فيها قضايا
تخص الرواية العربية ، والثقافة الفلسطينية والتاريخ والذاكرة القومية عبر خطابات
مختلفة.
وتمثل
فكرة الثقافة سؤالا مركزيا من خلال كتاباته المختلفة وكذا مواقفه السياسية
والثقافية المرتبطة أساسا بالقضية الفلسطينية وصراعها الدائم مع الأشكال العديدة
للخطاب الصهيوني. لهذا فقد شغله "دور المثقف" داخل المؤسسة الفلسطينية،
ومواقفه المتباينة في الخطاب الفلسطيني الحديث والمعاصر، أين نعثر له على كتابين
في الموضوع هما:
- بؤس
الثقافة في المؤسسة الفلسطينية، 1996.
- ذاكرة
المغلوبين، الهزيمة والصهيونية في الخطاب الثقافي الفلسطيني، 2002.
ويواصل
فيصل دراج نضاله الكتابي في دراسات أخرى ضمّنها في كتابيّه: إشكاليّة الثقافة
وأشكال المثقف، 2015. و"ما قبل الدولة ما بعد الحداثة". 2015، وهي من
الدراسات التي أشرف على نشرها المثقف والأديب المرحوم إلياس فركوح في دار أزمنة
بعمان الأردنية.
يتعامل
فيصل دراج مع الثقافة انطلاقا من كونها جملة من "التصورات والمعايير والقيم
التي يأخذ بها مجتمع معين في حياته اليومية، والاقتراحات العمليّة الصادرة عنها،
التي تعيد إنتاج العلاقات الاجتماعيّة وتحدد آفاقها ونزوعاتها..."1
يجمع هذا
التعريف بين وجهين مختلفين ومتكاملين في الوقت نفسه، حيث يمثل الوجه الأول مستوى
النظر ويمثل الوجه الثاني مستوى العمل أو الفعل؛ أيّ إن الثقافة تصور وقيم ومعايير
يتبناها أفراد المجتمع، ثم يحاولون تطبيقها عمليّا، ليتم بعد ذلك إعادة إنتاج
العلاقات الاجتماعيّة المختلفة في ضوء الآفاق والآمال التي يعقدها هؤلاء الأفراد.
ويقترب
هذا المفهوم من طرح الناقد البريطاني ربموند ويليامز حين قال بأن كلمة
ثقافة"تعني حالة العقل أو عادته، أو مجموعة من النشاطات المعنوية والعقلية،
فهي تعني... أيضا طريقة شاملة
للحياة."2
يرى دراج
من جهة أخرى أن الثقافة هي...قوة يجب
التعامل معها من منظور مفهوم الحاجات الإنسانية المتجددة، مع أنها كذلك قوة مضادة تخذل الحاجات الفعليّة
ولا تلبيها إذا تم التعامل معها بفعل بلاغي، يحتفي بالكلمات ولا يكترث بالوقائع.3
ترتبط
الثقافة إذن بفعل الممارسة، حيث لا يكفيها البقاء قابعة داخل حدود المستوى
التجريدي، وهو ما يشترط أن تصدر عن فاعلين اجتماعيين يتميزون بالقدرة على ممارسة
الفعل ضمن فضاء عام ميزته الحرية والقدرةعلى الاختيار، رغم القيود والإكراهات
الكثيرة التي تجعل من هذا الفعل محصورا على مستوى النظر فقط، مما يجعله ذلك في
كثير من الأحايين ينتقل إلى دائرة التجريد والتعالي.
كما
يناقش فيصل دراج مواطن العلاقة بين الثقافة والحداثة؛ أي يثير تساؤلات عن تداخل
فكرة الثقافة ومقولات الحداثة...فـ...الثقافة من المنظور الحداثي، قوة
توسع المجال الثقافي بوسائل ومواضيع غير ثقافية، أي بإنتاج مادي له آثار
ثقافية، حال الفن السينمائي الذي هو مزيج إبداعي من التقنية وعلم الجمال... 4
يحيل
المفهوم الحداثي للثقافة على الوسائل المادية الفاعلة في تشكيلها، أو نقلها
للمتلقي، ويستحضر القول السابق مثال السينما، وكيف أنها تجمع بين الوسائل المادية
والتقنية وبين الميزة الجمالية. ويثير هذا الرأي أيضا قضية راهنية لها علاقة
بمستويات ثقافة الحداثة، هذا النوع الذي يتعامل مع الثقافة باعتبارها حقلا معرفيا
واسعا ومتعددا يغطي الموضوعات الثقافية والغير الثقافية، بمعنى أنه يجمع بين
الإبداع والتقنيّة.
ويفتش
فيصل دراج أيضا عن تجليات العلاقة بين مفهوم الثقافة وسؤال الهوية، حيث إن العلاقة
بينهما علاقة "جدلية" تنشأ داخل خطاب نقدي يتموضع ضمن مشروع ثقافي
وهوياتي غير متقوقع على نفسه. وعليه فلا
" معنى للمشروع الثقافي الهوياتي إلا إذا كان مشروعا تنافسيا يقارن بين
إمكانياته وعناصره وأحوال مشاريع مغايرة، ذلك أن غياب المقارنة يرضي أوهاما ذاتية
تحكم على الهوية بالموات، معتقدة أنها تستنهضها."5
ويرى
فيصل دراج أن العناصر النووية المكونة للهوية هي التي تمنحها القوة، ويبدو أن هذه
الميزة لن تتحقق إلا من خلال تعددية هذه العناصر وتفاعلها فيما بينها. من جهة أخرى
تتفرد الهوية عندما تعترف بها غيرها من الهويات الإنسانية، فكل هوية تتقوقع على
نفسها يصيبها نوع من الموات الثقافي، لأن عناصر حياتها وقوتها تتحول إلى أورام
قاتلة.
ويشرح دراج ذلك بقوله: "يفرض مفهوم الإحياء مهما
كان مجاله على الهوية أن تعيد تنظيم عناصرها؛ أي أن يقوم بنقد ذاتي، وأن يأخذ من
الهويات المختلفة عنها عناصر معينة مفيدة لها، ذلك أن قوة الهوية من تعددية
العناصر المندرجة فيها، بقدر ما أن دليل قوتها اعتراف غيرها بها، واعترافها أن
الهويات الإنسانية المختلفة مزيج من الوحدة والاختلاف."6
يستدعي
فيصل دراج الخطاب العربي النهضوي وكيفية تعامله مع سؤال الهوية، حيث يعيب على
السياق المهزوم خاصة بعد النكسة 1967 استكانته وبحثه عن مقولة وشرط الخصوصية
الثقافية العربية بعيدا عن الآخر المشارك لنا تاريخا جغرافيا، وهو الأمر الذي يخلق
الخوف من هذا الأخر الذي يمثله الغرب عموما لأسباب سياسيّة وتاريخيّة ضمن دائرة
الصراع الحضاري.
لهذا
فـ"إذا كان السياق النهضوي العربي الباحث عن أفق منتصر قد ربط وعي الهوية
بالتهديد الخارجي والرد الموضوعي عليه، فإن السياق العربي المهزوم في العقود
الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين استعاض عن وعي التهديد بأوهام الخصوصية المطلقة
وفقا لوعي شكلاني يلغي معنى الهوية والآخر والتاريخ، من هنا جاء أنصار الحقوقيّة
المطلقة برفض كل ما له علاقة بالغرب المنتصر: رفض العلم والعقلانية، والديمقراطية ورفض
فكرة المستقبل."7
ويرى
فيصل دراج أن ظاهرة البحث عن الخصوصيّة الثقافيّة في جو رافض للآخر يؤدي بنا إلى
رفض المقولات الأساسيّة التي أنتجها السياق الغربي، والتي تعد مهمة لكل مجتمع
متخلف يبحث عن التطور، ومنها مقولات فكرية تختص بالعقلانيّة التي تستتبع العلم، ومقولات
سياسية وحضارية ممثلة في الديمقراطية. لهذا فإن هذا الرفض للأخر العقلاني هو رفض
لفكرة المستقبل، وبذلك فهو تكريس لفكرة الماضوية القاتلة.
ومنه
فـ"إنّ الفرق بين الهوية الثقافية الماضوية والمغلقة التي ترى في الآخر إلا
اختلافه والهوية كمشروع ثقافي تنافسي هو الذي يربك معنى التراث إرباكا كاملا،
ويجعله حاضرا وغير حاضر على الإطلاق، فلا وجود للتراث بصيغة المفرد."8
و يدافع
فيصل دراجمن هذا المنطلق عن أطروحة مفادها أن ... صنع الهوية باعتبارها مشروعا
ثقافيا تنافسيا، يتأسس على "أنا" تقارن ذاتها بـ"آخر" وتعرّف
نقدي فاعل على إمكانيات الطرفين لمعرفة أسباب الاختلاف بينهما."9
لهذا فإن هذه الأطروحة لا يمكنها أن تتجسد بعيدا عن جملة من الأسئلة العضوية لعل أبرزها أن نجعل " هذا الزمن من الحاضر الزمن الفعلي لسؤال، فهو الزمن الذي انتهى إليه الماضي الذي لم يعد قائما، وهو الزمن الذي يتم الانطلاق منه إلى المستقبل الذي هو حاضر وغائب في آن."10
يبقى فيصل دراج من النقاد المعاصرين الذين يحتاجون إلى دراسات مختلفة كونه يشتغل على جملة من المعارف التي تتقاطع فيما بينها. مما يجعله يجسد صفة الناقد المتعدد.
الهوامش:
1-فيصل
دراج: أشكال المثقف وإشكالية الثقافة، دار أزمنة، عمان، الأردن، ط1، 2015، ص 32.
2-ريموند
ويليامز: الثقافة والمجتمع، ترجمة وجيه سمعان، الهيئة المصرية العامة للكتاب،
القاهرة، ط1، 1986، ص 13 .
3-أشكال
المثقف وإشكالية الثقافة ، ص 44..
4-أشكال
المثقف وإشكالية الثقافة، ص 42
5-أشكال
المثقف وإشكالية الثقافة ص45
6-
أشكال المثقف وإشكالية الثقافة، ص 45
7-
أشكال المثقف وإشكالية الثقافة، ص46
8-أشكال
المثقف وإشكالية الثقافة، ص 47
9-
أشكال المثقف وإشكالية الثقافة، ص 47
10-
أشكال المثقف وإشكالية الثقافة، ص 47.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق