1948 - حسن البقالي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 15 مايو 2023

1948 - حسن البقالي


يرى البعض بأن الشجرة يمكن أن تخفي الغابة. ويرى آخرون أن وراء المصادفات العديدة يدا تدبر أشياء العالم وفق نظام صارم، صادم أحيانا.

ثمة ترتيب للأوراق

وعودة متجددة للحدث القديم عبر نوع من الإعلاء أو السخرية أو المضاعفة والتشديد.

في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي ، كتب أحد الكتاب رواية

بعد حربين كونيتين تركتا خرابا هائلا في المنشآت والأرواح والأنفس، ومد نازي يواكبه أو يعقبه ارتهان مجتمعات كاملة لفكر شمولي جعل منها قطعانا ومراعي في نفس الآن لنزوات الحاكم بأمر اليوتوبيا

الكاتب إياه كان يعرف بأن العمل الروائي ليس مجرد انعكاس مرآوي للواقع واستنساخ له، كما كان على وعي بطبيعة البشر ونزوعهم الأبدي إلى الشر والتسلط، ولذلك خرج للعالم برواية استشرافية هي واحدة من العلامات المضيئة في تاريخ الرواية العالمية

رواية سوداء تماما

لكنها أضاءت طريق أجيال كاملة من المتلقين. ولم يكن الأمر شديد التعقيد. كان يحتاج إلى ذكاء إبداعي، كأن تصف أول الليل وأنت تريد آخره، أو تصف امرأة وعينك على جارتها. قال الكاتب: لألعب مثل طفل.. أفكك الأرقام وأفلب التواريخ

وكذلك كان

الرواية التي كانت نتاج زمن ما بعد الحرب الكونية الثانية، سنة 1948 تحديدا، حملت عنوان 1984

بهذه الحيلة الفنية تجاوز أورويل زمنه إلى الأزمنة اللاحقة، وحمل روايته تلك الرؤية الاستشرافية المتغذية على لحم الطبيعة البشرية.

وإذا استساغ الكاتب عملية القلب هاته، والمراوحة بين زمنين: 1948 و 1984، فمن البديهي أن يتمكن المتلقي بدوره من ممارسة نفس اللعبة، بحيث يصبح العنوان هو 4189 أو 8149.. وبذلك تستطيل ظلال الرواية وتصبح رواية كل الأزمنة.

سنة 1948 شهد العالم حدثا آخر

حدثا مأساويا روع الأفئدة، ولعب فيه التعصب الطائفي دور المحرك والزناد الذي أطلق الرصاص.. ثلاث رصاصات اخترقت الجسد الهزيل للمهاتما غاندي وأردته قتيلا.

حدث ذلك في دلهي عاصمة الهند آنذاك، بينما كان غاندي خارجا من اجتماع للصلاة

أكيد أن تنازع الحكم حين يقترن بالتعصب والإيديولوجيا العمياء، يصبح مشرعا على كل أنواع الشرور. ولعل تاريخ الحكم هو تاريخ الاغتيالات بامتياز

لذلك ليس الاغتيال هو مبعث السخرية هنا. فلكي نتذوق طعمها الحاذق، علينا انتظار سنة 1984، حيث نشهد حادث اغتيال آخر يعكس بشكل ما الحادث الآول ويضاعفه. فبينما كانت رئيسة وزراء الهند في طريقها إلى لقاء وجه فني بريطاني هو الممثل "بيتر أوستينوف"، تعرضت لعملية اغتيال من لدن اثنين من حراسها الشخصيين

رئيسة الوزراء هاته تحمل اسم غاندي أيضا

وإذا كان المهاتما قد تلقى سنة 1948 ثلاث رصاصات، فأنديرا تلقت سنة 1984 ثلاثين رصاصة أو تزيد قليلا

هي لعبة الأرقام مرة أخرى، معززة بالأسماء. وفي هذه الحالة أيضا مجال للتخمين والافتراض. من يدري، لعل غاندي آخر يتعرض للاغتيال، ويكون ذلك سنة 4189 أو 8149.. وبذلك تترسخ هذه الأرقام في المخيال الجمعي للبشرية كمعادل للاستبداد والقتل والترويع.

إن حرف q  يماثل صوتيا في اللغة الفرنسية كلمة cul، ما يحيل إلى المؤخرة، وإلى العملية الجنسية. لكنه في اللغة الإنجليزية ينطق "كيو" ويحيل إلى السؤال، بينما ينطق في اليابانية تماما بنفس منطوق الرقم 9.

هذا التماثل أوحى لكاتب ياباني كبير هو "هاروكي موراكامي" بأن يعنون إحدى رواياته الأوسع انتشارا ب1q84. وهو بذلك يلمح إلى أنه "أورويل" وأنه موراكامي أيضا، وأن 1984 ستبقى خالدة في الأذهان، لكنها قد تتخذ صيغا أخرى، يصبح فيها "الأخ الأكبر" منظمة سرية مثلا، ويعيش فيها الأبطال عوالم غامضة وملغزة يكونون فيها قتلة مأجورين أو كتابا يعيدون كتابة أعمال الآخرين مثلما كانت تعاد كتابة التاريخ في رواية أورويل. فقط، التحريف الذي كان يطال المحتوى صار هنا تصويبا في الشكل .

إن العالم في النهاية كتاب كما يتصوره "بورخيس".. كتاب استثنائي مرعب يضم الكتب جميعا والأزمنة. وهو عند "ابن عربي كتاب تكويني يتضمن رسالة من الله تماما مثلما يتضمنها الكتاب التنزيلي. والحياة التي تأخذ شكل طفل يلهو مجرد مزحة، لأن وجه الطفل هو في الحقيقة وجه راشد بقسمات قاسية، مهيإ لكل أنواع الشرور.


هناك تعليق واحد:

  1. أبدعت أستاذ حسن؛
    دام أَلَقُكْ

    تقديري واحترامي

    ردحذف