1 ـ ما أقصر العمر حتى نضيعه في النضال (أحمد شوقي، محمد عبد الوهاب(
أذا كان النضال وسيلة من أجل كمال
أعظم، فإنه جزما ليس غاية في حد ذاته، ومتى أصبح كذلك كغاية أخيرة، فإننا نتلف
الغاية من أجل الحياة، ونختزل العمر كله في اللاجدوى وانعدام القيمة، بحيث نلقي
بأنفسنا الهشة في قعر حلقة النضال المفرغة. أو بعبارة أخرى يدركنا العدم قبل أن
نبلغ الغاية أو غبطة الكينونة. آه الحب، الحب فيه بقائي، آه الحب، الحب فيه زوالي.
2 ـ الانعزال غير الاعتزال، رغم أنهما معا من نسيج العزلة كمرغوب فيها. لعل الفرق يكمن في كون
العزلة في الانعزال منبعها رغبة في العزلة في- ذاتها، كونها انطواء في الذات على الذات.
إنها تشكل الدرجة الصفر في رغبة أخرى غير الذات، بحيث لا تتعدى الذات ذاتها عينها
الراغبة في العزلة كأفق للتماهي مع هذه الذات المنطوية على عينها؛ أما الاعتزال
فمنبعه فمنبعه رغبة في عزلة من أجل ذاتها، وليس في ذاتها، أي أنها في الأول
والأخير عزلة من أجل الذات، كنمط للانفتاح على إمكانيات أخرى، من بينها انعتاق
الذات من ذاتها، أو هو التحرر من نمط عزلة تتخطى فيه الذات ذاتها. وهذا معناه في
هذه الحالة أن الاعتزال عارض من عوارض تحول الذات من أجل شيء آخر، ليس هو ما
اعتادت عليه. هذا النمط من العزلة الذي هو الاعتزال هو الذي يفسر السبب الذي يدفع
مبدعا ما إلى اعتزال عن نشاطه الإبداعي المعتاد، لا من أجل أن ينطوي على ذاته،
وإنما لأن حدسه للزمان يرشده إلى الانفتاح على إمكانية أخرى للحياة، قد تغير مجرى
حياته، لكن ليس باتجاه الانعزال، أو الانطواء على الذات، وإنما كإجراء ضروري من
أجل بلوغ حياة لا تنطوي على الذات، وإنما تعبر عن توق الذات إلى اعتزال المألوف من
أجل أفق مغاير للذات في الحياة، حتى ولو كانت غاية هذا الأفق هو اختبار تجربة
الصمت عينها. وهذا بالأحرى يعبر عن أقصى درجة الاعتزال من أجل الحياة في أفقها
اللامتناهي.
3 ـ كل شيء يتوقف على المبدأ، لكن ما هو المبدأ؟ إنه ليس أولا متقدما ولا آخرا تاليا، بل هو
المسعى الذي ينكشف في الغاية، وهو الغاية التي تتحقق بالمسعى. وهذا معناه أن
المبدأ ليس مجرد فكرة تنتسب لأصل ما ينطوي على مبدأ المبادئ، بقدر ما ينتسب لتأصيل
ينكشف فيه المسعى كمبدأ حيوي للكينونة، أو كنمط أصيل لفن الوجود. ومبدأ الوجود لا
يعترف بأصل، بقدر ما يعترف بمبدأ محايث يكمن في بلوغ أعظم كمالات الحياة. بعبارة
أخرى يكمن المبدأ في القوة التي تتعاظم بقدر مسعى الكينونة نحو كمال الوجود،
والحال أن السعي نحو كمال الوجود هو المنشأ الدائم لكل مبدأ لابتكار فن الحياة.
4 ـ الأصل في الأشياء الانكشاف
والتجلي، أما التخفي فهو ليس انحجابا، وليس من الحجاب في شيء، وإنما هو مجرد
نمط لأشياء قيد الظهور، فلا شيء يظهر دون توسط الرؤية، وهذا لا يعني بأن ما لا
ينكشف لا يظهر ، بقدر ما يعني أن الرؤية غير بالغة بعد الإبصار.
أما الحجاب فهو من عمل الإنكار،
إنكار الرؤية وإنكار حق الكائن في التجلي، إنه ليس من عمل التخفي، إنه مجرد وصاية
على الكائن الذي ينكشف ويتجلى. لذلك كان الحجاب عملا للزيف والإضمار الذي ينكر حق
كائن إنساني ما في الانكشاف والتجلي، وكأن انكشاف هذا الكائن الإنساني وصمة عار
على الظهور. غير أن العار ليس منتسبا للانكشاف وإنما هو ينتسب لفعل الإضمار
والتحجيب، ما دام صادرا عن عنف غير مبرر في حجب التجلي الأسمى لكائن بشري، هو أرقى
في انكشافه وتجليه من كل التمثلات الرديفة للحقارة البشرية.
5 ـ أن نبدع في الحياة أفضل من الانغماس في الكتابة، إذ أن الكتابة لا تعني شيئا إن لم تكن إبداعا للحياة. لهذا لا جدوى
من كتابة ليست في أفق حياة ذات أسلوب أو فن للعيش، ولا جدوى من حياة ليس في أفقها
سوى كتابة عسيرة على هضم معنى الحياة.
6 ـ في حكمة الصمت:
أولا: ليس الصمت حكمة إلا لأنه مشروط بالإصغاء للوجود. هذا معناه أن
للصمت دلالة أنطولوجية أو ميتافيزيقية محضة، تنكشف من خلالها بعض الأسرار التي
تقودنا نحو منبع الكون، أو بالأحرى نحو منبع الذاكرة، والتي من خلالها أيضا نستشعر
كل ما هو أصيل وجميل، او كل ما هو منبع للخلق والإبداع. هذا معناه أن الصمت إصغاء،
وأن الإصغاء شرط لابتكار الوجود ثانية، ولابتكار ذواتنا في الآن عينه.
ثانيا: ليس الصمت حكمة إلا لأنه مشروط بالإصغاء للآخر، وهذا معناه أن
للصمت دلالة إيطيقية أو أنطولوجيا عملية، لا تكمن في المقول، وإنما في القول الذي
لا يعبر عنه مقول قول ما، بقدر ما تعبر عنه المسئولية تجاه الآخر، بحيث أن
المسئولية هي القول عينه، والتي تعني أن الوجود ليس محتملا قط، بحد الوجود، وإنما
هو محتمل بشرط التقدير والمسؤولية تجاه كل آخر، أو بالأحرى بشرط العلاقة مع الغير.
ثالثا : الصمت ليس من السكوت في شيء، كون السكوت موقفا أونطيقيا أو بالحري
هو موقف ظرفي ليس إلا، غير أنه ليس موقفا أنطولوجيا أو إيطيقيا، لسبب بسيط كونه
إما يعبر عن رضى تام أو رضا ناقص، أي عن قبول لأمر واقع من دون إخضاع، أو عن قبول
لأمر واقع تحت شرط الإخضاع. أو إما أنه يعبر عن عزوف عن الكلام، ناشئ عن انعدام
الجدوى من الكلام أو عن عجز مكين في الحزن والكآبة.
7 ـ كل فعل، مهما كان جليلا أو بسيطا، هو حدث، وكل حدث اختلاف. فإذا ما تساءلنا عن الاختلاف أو الفرق
المنسوب للفعل
“what difference does it make ? “
لوجدنا أن الفعل منطو على الاختلاف، وليس العكس، كون الفعل هو شرط إمكان الاختلاف، وليس الاختلاف شرط إمكان الفعل، وذلك لأن الاختلاف عينه حتى وإن كان معطى في الوجود، فهو ينتسب لحال الوجود وليس للجوهر عينه، أي أنه ينتسب للفعل الذي يلحق بصفات الجوهر، وذلك لأن كل فروقات الطبيعة إنما هي أنماط فعل يتعلق بأحوال الوجود. ولا تعدو الطبيعة البشرية أن تكون غير ذلك، كونها تحدث الفرق أو الاختلاف ليس بالنظر إلى الكينونة، وإنما بالنظر لجملة الأفعال التي تعين نمط الكينونة. إذن كل فعل مهما كان جليلا أو بسيطا إنما ينطوي على الاختلاف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق