أرخبيل الوعي الأوربي أو الفلسفة: المعنى والواقع - ترجمة: مراد بن قاسم - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

السبت، 27 مايو 2023

أرخبيل الوعي الأوربي أو الفلسفة: المعنى والواقع - ترجمة: مراد بن قاسم


انشطار الفلسفة وانهيار وقارها: [ص. 257] فقدت الفلسفة في الوعي الأوربي بساطتها أو سذاجتها؛ إذ حدث داخلها انشطار. فمن ناحية، نعاين حضورًا لتاريخ الفلسفة. ومن زاوية أخرى، تظهر حركة وضعية جديدة كاملة تقصد إلى تحقيق هويتها في عالم العلم -وإني لأعتقد في استخدام هذا التعبير المريح- أيِ «الوضعية الجديدة». وما مثل محددًا لهذه الحركة هي كلمة، سرعان ما أصبحت غامضة جدًّا: إنها كلمة إبيستمولوجيا، وهي كلمة قابلة للنقد وخطيرة. وقد يقال: إن من يتوسل العقل سيشهد بأن الفلسفة غالبًا ما تكون منقسمة؛ هذا فضلًا عن تلك الصلة بين التيولوجيا والفلسفة، التي لم تكن على ما يرام. غير أن ما تعايشه الفلسفة من انقسام هو كثيف وفظيع ولافت. من ذلك رفض بعض العلماء، ممن تلقوْا تعليمًا فلسفيًّا كلاسيكيًّا، أن يروا فيها أصل فكرهم العلمي، وهناك من ينظرون، فقط، إلى الفلسفة، وبصفة أخص، تاريخها «غير المجدي» بامتعاض وغضب.

ففي البداية نظرنا (ولا يزال بعضنا يفكر في ذلك) بإعجاب إلى الفلاسفة الذين درسوا الطب (دون ممارسته) والرياضيات (دون اختراعها) والكيمياء حتى علم الحفريات. ثم جاء الشعور بأن الوضعية الجديدة، بدورها، أصبحت عبارة عن فوضى لركام مبعثر. وكذا كان منطق العلم -وهو ما تعنيه الإبيستمولوجيا- أيضًا، لكنه لا يزال، ولو على نحو ضئيل، ضحية للمجاملات المجانية.

وفي هذا الانقسام الكبير، انفجر الفضاء الفلسفي، فعليا. وها هم الفلاسفة الجيدون ينزلقون فيما بين تاريخ الفلسفة والإبيستمولوجيا ليصبحوا أدباء، فتكون أعمالهم الرائعة هامشية، في الغالب، بالنسبة إلى الفلسفة. وفي المقابل انهارت الهندسة المعمارية الفلسفية الموقرة.

ومع ذلك، لا ينبغي تعتيم الصورة؛ فقد شهدت الفلسفة، كما قلت، انقسامات كبيرة في القرن التاسع عشر؛ إذ عُدّ أوغست كونت، منظر العلوم والمجتمع والدين، هو أيضًا، [ص 258] منشقًّا، بالمعنى الحرفي للفظ، تقريبًا. وإذا سمح لي باستخدام مصطلح الانحراف، فسأؤكد، متوسلًا مثال أوغست كونت، أنه كانت هناك، دائمًا، أرواح منحرفة لتغذية الفلسفة. وفي الحقيقة، فإن الفلسفة جاحدة لأبنائها؛ وهي، نفسها، تثير هذه الانقسامات؛ إذ يُشادُ بالفيلسوف بوصفه عبقريًّا قد قضى نحبه، ولا يزال يُنظَر إليه ببعض الازدراء. هي ذي الطريقة التي حُجِبَ تأثير فكر سارتر -في كل من أطروحاته ورواياته- على نحو مأساوي؛ لذا فإن البقاء على قيد الحياة غاية في الصعوبة. وهو ما لا أدعيه مطلقًا.

وتتمثل الصعوبة الأولى للفلسفة المتماسكة، في بقائها ملتزمة بالعالم حتى تتمكن من إتمام خطابها. وأن تكون حرًّا ليس فقط، كما يريد كانط، أن تكون قادرًا على بدء شيء ما، بل يعني، أيضًا، أن تكون قادرًا على وضع خاتمة له. غير أن نسج خاتمة ما، ليس أمرًا يسيرًا؛ لأن العالم في تحولاته السريعة التي يصعب فهمها في كثير من الأحيان، يدمر بلا هوادة بعض المشروعات في أثناء عملية التنفيذ. فنحن نسلم، من وجهة نظر ديمغرافية، أن عدد سكان العالم يتضاعف كل خمسة وثلاثين عامًا. والحال، تخضع المعرفة لتطور أقل سرعة، ولكنها تبقى قابلة للمقارنة، وهو ما يترتب عليه، أن العقيدة، التي طالما بنيت، ترتكز، عندما تكمل مبادئ استنتاجاتها، على واقع علمي عفا عليه الزمن، مثلما تأسس على عالم بشري مختلف.

وهكذا انهار كتاب عظيم، اختير له عنوان بسيط، ألا وهو «مخطط فلسفة البنية» (l’Esquisse d’une philosophie de la structure ). وعلاوة على ذلك، تؤثر السياسة العملية في التفكير. فقد كان التمسك بتماسك بيانات العقيدة الماركسية، حسب التاريخ، مهمة أساسية منذ وقت ليس ببعيد؛ إذ يدرك المنظرون الماركسيون، الآن، أن تصريحات ماركس الأساسية غامضة وعائمة.

الحرية الشريدة أو أزمة الحرية في الفلسفة

عظيم في عصرنا مثل هذا الإغراء: لقد أرادت العقول العظيمة التخلي عن الحرية، بوصفها حرية الاستنتاج، لصالح حرية السؤال التي عُرِّفَتْ، ببساطة، بالاستعادة الممكنة لتاريخ الفلسفة- من مثل التساؤل: ماذا عن الوجود؟ هو ذا موقف فردينان ألكيي الذي اختار، في تحدٍّ للاستنتاجات، السؤال الأبدي. لقد كان من الحكمة [ص. 259] التحدث عن المشكلة الدائمة؛ لأن الحديث عن الأسئلة الأبدية يقتضي أن نقدم خلسة بعد الخلود في سياقه الديني، ودحرنا قصدًا إلى «عمق الخلفية».

وضمن هذا السياق، سيكون من اليسير إثبات أن هايدغر اتبع مسارًا غير قابل للمقارنة، ولكنه متطابق: فعندما يؤول نيتشه، فإنه يعيد اكتشاف مسألة الوجود كما يفهمها. وكما كان لا مفر منه، فمن الحكمة، إلى حد ما، أن يصبح السؤال موضع تساؤل، لنتساءل عن الاستجواب. يجب أن نخشى، هنا، تراجعًا أقل إلى اللانهاية من ظهور قطيعة جديدة مع الحرية، كالحرية في استخلاص خاتمة ما. وفي الواقع، كما نرى مع ألكيي (Alquié) ومع هايدغر، بصفة أخص، يخضع جوهر السؤال لمثل هذا التشريد، بحيث يجب أن يكون الاستنتاج، عينه، موضوع تقويم جديد.

من الغريب أنه جُنِّبَ هذا، بحيث تخلّت الفلسفة عن الحرية، التي فهمت بهذا المعنى الأساسي -ما الحرية من دون القدرة على الاستنتاجات؟- أو اختُرِع مفهوم آخر ضيق للغاية، الذي، كما هو الحال مع بعض تلاميذ هايدغر، يقتصر على قوة الصياغة أو قوة صياغة السؤال الأنطولوجي، وإن المنفعة التي سيحصل عليها المرء في هذه الرؤية ستكون الأساس لرفاهية فكرية: فالفيلسوف المنشغل بسؤال أبدي سيحكم على انتمائه إلى العالم على أنه غير مهم، والفلسفة ستكون موجودة بقدر ما عرفت كيف تنفصل عن الحياة.

إن ما ينتظر المفكر، بهذا المعنى، هو صمت معين. إذا كان عمل هايدغر مهمًّا، فذلك لأنه، يدرك في هذا الاتجاه، فهو مصدر مذهل للصمت، صمت يقوم على لحظة محددة، حيث تبحث الفلسفة، في الكلمة، عن ترسيخ كيانها؛ في حين أن الخطاب في الكلمة لأجل الكلمة لا يولد إلا صمتًا مضاعفًا.

بيد أن الكلمة هي لا شيء من دون المعنى الذي يحفظها. وهذا المعنى ليس شيئًا، منفصلًا عن مجمل الدلالة النسقي، وهذا الكلي، بدوره، لا يعد شيئًا إذا لم يكتشف الفكر فيه الطابع النسقي والوظيفي الداخلي. وإن إدراك مثل هذه الكلية هو استعادة الفكر في الحياة النشطة كقوة استنتاج. [ص 260] كان على الفلسفة أن تحلل السؤال المتعلق بالسؤال بقدر أقل بكثير من تحليل فكرة الاستنتاج، على الرغم من أن هذا لم يكن سيئًا تمامًا. يوجد، هنا، شيء ما مزعج ومدهش. وإذا فكرنا في الأمر قليلًا، فسنرى أن هذا الرفض لفحص فكرة الاستنتاج، من وجهة نظر متعالية، ينطلق من انطباع تجريبي للغاية وفعال للغاية.

واضح، لأجل قراءة بعض نصوص فردينان ألكيي، أن الوعي بفلسفة تقدم استنتاجاتها ستمحى مِن فورها من الخريطة. فقد كان الموضوع العام لفكر ألكيي، على الرغم من شكله، معاكس تمامًا للاستنتاج. كان يحب أن يقول: إن فلسفته كلها قامت على هذه الصيغة: «الوجود ليس هو الموضوع». كان هذا نفيًا خالصًا ومعاكسًا تمامًا للاستنتاج، إذا اعتقدنا أن الوجود (L’Etre)- متسائلين: لماذا تكتب أول حروفه باللسان الفرنسي بحرف كبير (E)؟- لم يُعَرَّف (الوجود) بأي حال من الأحوال: هل كان فعلًا؟ أو جوهرًا؟ هل كان حركة؟ أو سكينةً خالصة؟ وعلاوة على ذلك، نتساءل: ما هيكل النفي؟ ولكن ساد، في النهاية، الخوف من النتيجة الحقيقية. والمشهور أن هايدغر، بدوره، لا يتقدم بطريقة مغايرة بمجرد أن غادر مسارات الفينومينولوجيا، (التي عُرِّفَت على نحو سيئ من وجهة النظر المتعالية).

ومع ذلك، فإن فكرة الاستنتاج هي ما يجب أن نعود إليها، دائمًا. فعندما نكمل مشروعًا ما، ينتهي، من الناحية النفسية، شعورنا بالالتزام به وبكل قراراته. ويعلم الجميع، من التجربة، أن مهمة غير مكتملة -حتى لو عرضتْ أشياء غير مكتملة مثلما هو الحال هنا- هي مهمة مزعجة. إذا لم نبلغ التوفيق، قط، في الاستنتاج، ولو بشكل متواضع جدًّا، فلن نتمتع بالحرية. وبالطبع ليست الحقيقة بمثل هذه البساطة. يجب أن نعمل على حل المشكلات، التي نعرفها جيدًا، ومع ذلك فإن الاستنتاجات النهائية تنتمي إلى مستقبل بعيد جدًّا. وفضلًا عن ذلك، فإننا نعمل بلا كلل لأننا نريد وضع خاتمة هي بمنزلة الحوصلة أو الاستنتاج.

إن المسألة مهمة- فالاستنتاج هو أكثر من ذلك، فدون أمل في الاستنتاج، فإن الإرادة الداخلية للمعرفة ستنهار: فالفلسفة، وفقًا للتعبير الكانطي، لا تحكمها نهائية بلا نهاية؛ لذلك من السيئ أن يحاط الذهن بالأسئلة [ص. 261] التي تتوسل مصطلحات من دون تعريف واضح: إنه لإنكار للمعرفة وحياتها.

التحلل العميق للفكر الأوربي

من الضروري التمييز هنا بين النهاية والاستنتاج. فكل حياة كائن تنتهي. ولكن لا نغنم نتيجة من كل حياة كائن. ويمكن قول الشيء نفسه عن الأفكار الفلسفية. فإذا كان للموت من معنى، فهو بالتحديد رسم لخط، واستحضار لنهاية، وغالبًا ما يجمع الموت شظايا متفرقة، غير متسقة ودون نظام القبر، اعتبارًا وأن المقبرة هي نظام، بمعنى أنها تشد البقايا بعضها إلى بعض. وفي الفلسفة كما في الحياة، هناك أشياء لها نهاية، وهي ليست أكثر من جثث. فالأفكار غير المكتملة، ودون استنتاج، تجعلنا خطرين وجادين- إنها مجمدة مثل الجثة، ومثل الفشل التام الذي يرمز إلى الموت.

ربما هناك بقاء للسؤال الدائم. ولكن عند تناوله مرة أخرى نتساءل: من يهتم بالفكر كمقتضى من مقتضيات وضع النسق؟ ولما يتعذر علينا الشك تحدث مأساة: فالشعر الحر يغزو الفضاء الفلسفي للهروب من جدلية النهاية؛ إذ تحول الفلاسفة شعراء، وأصبح الشعراء فلاسفة. إنه تعويض وحشي للمعرفة في سعيها إلى الصرامة التي تفتقر إليها. هذا أحد خطوط التحلل العميق في الفكر الأوربي. وسيكون الخط قد رسم حقًّا عندما تصبح الفلسفة لعبة.

لكن ربما نكون مخطئين في استعمال هذه المصطلحات في طرح المشكلة، وربما لا يكون للصعوبة المطروحة، هنا، المعنى الذي ننسبه إليها.

نحن نعترف -ونبين بواسطة أمثلة تجريبية، التي لم تحظ بتحليل كاف- أن الفلسفة هي معرفة، وأن المعرفة يجب أن تتضمن استنتاجات نفسية، من مثل التي ظهرت في هذا المقال. هذه الافتراضات هي التي يرفضها فيلسوف بارز مثل شيستوف (Chestov). لقد كان الخط الأول للقوة في فكر شيستوف هو رفض العقل. وبشكل أكثر بساطة، ومنطقيًّا، فقد عارض الوجود بمعارضته للعقل. وكما هو الأمر في عمله التاريخي، حيث يظهر كفاءة مميزة على اختراق لحظات الروح، [ص. 262] وفي أعماله المتخصصة الأقل أهمية، يريد شيستوف أن يظهر أنه لا يعرف الروح، بل يتطور الوضوح في الاقتلاع (الجذري) لها(Bodenlosigkeit) ؛ وبهذا يتم للمرء الوعي بهشاشته الميتافيزيقية، التي تحدث فيه شرخًا، هو بمنزلة الهاوية أين يمكن أن تسقط الكياسة. ويجعل شيستوف من غياب الاستنتاجات الوجودية والوجودية (نفسها) مبدأ لمعرفة ممكنة. وهكذا يمكن أن يظهر نفسه، في كثير من الأحيان، على أنه متشكك في براهينه -على نحو التشكيك في مبدأ السببية الذي يعيده، مثل دافيد هيوم، إلى العادة والخيال- مدعيًا أن الفلسفة، ليست المعرفة القادرة على اقتراح استنتاج واحد، ولكنْ مع ذلك، وبدءًا من هذا التأكيد، يريدنا أن نفترض هذا النفي في الوجود، وبصورة أوضح سنعرف أننا بلا جذور ومضطربون.

وبالتأكيد لا يستطيع شيستوف أن يتجنب، تمامًا، فكرة الاستنتاج. فالكلمة، عينها، تفرض نفسها بقوة الأشياء. ولكن من المنظور الأخلاقي الذي يتأمله، يدرك الاستنتاج في شكل اعتراف. والاعتراف لدى شيستوف هو الاعتراف بغياب الحس الإنساني، الذي يسيطر عليه الإنسان ويخترقه. وهكذا يظهر لنا تولستوي مصرحًا بعدم قدرته على التجذر في الأرض، وفي الواقع، وفي عالم البشر. أما سقراط والموت ينازعه، فيقدم درسًا في الفلسفة قبل أن يموت: (آه! للأساتذة)، فهو يلقى توبيخًا من شيستوف؛ لأنه لم يعترف بأن المعرفة لا شيء، (وهو ما يختلف عن قوله: إننا لا نعرف شيئًا)، وأنْ لا شيء أكثر أهميةً من الحياة ونهايتها. وبالمثل، يلقي باللوم على أفلاطون لاستخدامه عبقريته في تطوير الهياكل الفكرية المثالية، من مثل نظريته عن الأنظمة السياسية، التي تقدم فكرة خاطئة، مفادها أن المعرفة، من منظور الفكر، قادرة على الاستنتاج.

لا يمكننا، من وجهة نظر إنسانية، دحض فلسفة مبدؤها نبذ كل ما هو بشري لفسح المجال للتعالي. فبين فلسفة الاستنتاج، التي تمارس القليل، (والتي سنقول عنها بضع كلمات)، وفلسفة الترقب الشيستوفي، فإن الفجوة وسيعة، بلا شك، مقارنةً بفلسفة السؤال، التي تدعي أنها تظل ضمن مجال [ص. 263] السؤال، أي ضمن فضاء العقل، ذك الذي يرفض هذا الهراء، على الأقل، بما هو، على وجه التحديد، نعمة وفضل لدى شيستوف. ولنا أن نتبين، لم يكن هذا موضوع حديثنا، في قرننا هذا، وهو القرن الذي تقدم أبعد من أعمدة العقل؟ إن الفلسفة شيستوفيانية، إذا حق للمرء على الأقل أن يطلق عليها فلسفة، كوصية لا جذور لها وكاعتراف وترقب، فلسفة لها معنى ديني، فقط، وتُحدَّدها، من خلال وساطة الموت، على أنها ذروة النهاية واللحظة الميتافيزيقية الفريدة، وهي لحظة الوجود التي تشكل عقبة أمام كل فلسفة حية.

لكن، وبغض النظر عن فنه، إلا إذا كان بسببه رُفِضَ جميع أسئلة المعرفة، ذهب شيستوف بعيدًا جدًّا. فمن خلال رفض العقل، الذي لا يؤسس إلا باختصار الشك النظري، والذي هو بطريقته الخاصة معرفة باللامعرفة، فقد وقع في التصوف محطمًا أي حوار مناسب مع الفلسفة. وليس بإمكاننا الرد على شيستوف ولا الاعتراض عليه. وهذا هو سبب التأثر البالغ بخطابه. خطاب غير قادر على الحوار وتبعًا لذلك غير قادر على دمج فكر الآخر بجدية، والذي كان بالنسبة إليه، دائمًا، فكرة يجب دحضها، فقد دخل في حوار داخلي (مونولوج) دون اختلاف، ولذلك تكون قصته عن الأرواح شريطًا سينمائيًّا يتألف، فقط، من صورة: فإذا كان لديه المثابرة، فلأن المونولوج، الذي شوهد منذ مدة طويلة، يتوقف عن أن يعبر عن مفارقة، ليصبح التأكيد، الدائم، على ضرورة استنتاج المرء أنه لا يوجد استنتاج.

ومع ذلك يمكننا الاتفاق على نقطة واحدة مع شيستوف. فتأمله العظيم مبني على سؤال واحد: هل يجب أن نثق بالعقل أم لا؟ كان علينا أن نعطي فكرة عن نهج شيستوف قبل أن نصل إلى ما هو، حقًّا، نقطة البداية. ومن الطبيعي أن يقدم شيستوف إجابة سلبية. وهو ما لا يمكننا رفضه من فورنا، حتى لو كان علينا أن ندرك بغموض، أن التقليد العظيم للفلسفة الكلاسيكية قد أطاح به؛ ذلك أن ما هو أقوى إثارة في إجابة شيستوف أنه يدور حول محورين، أحدهما نظري والآخر أخلاقي يهيمن عليه مفهوم القيمة المحددة كأهمية (قصوى). ومن وجهة نظر نظرية، فإن شيستوف -بعد باسكال [ص. 264] – يقلل من قيمة الموضوع (الشيء المنتج)، الناتج عن الذكاء التقني، الذي يعتقد الإنسان أنه لا يستطيع الاستغناء عنه. ذلك أن تخفيض قيمة الموضوع والذكاء التقني، في ذاته، هو تخفيض لقيمة العقل الذي يفهم من هذا المنظور على أنه قوة الحرية الأخلاقي.

في أفق المراهنة على سلطة العقل

هل الموضوع التقني، وأفعال الذكاء، والمعرفة على قدر من الأهمية؟ (…) لا يمكن للمرء أن يجيب على مثل هذا السؤال في بضع صفحات، وسوف يعتقد بعض أن هذا السؤال كلاسيكي- ففلسفة كانط لا معنى لها من دون هذا السؤال- ولكن لا يزال من الواجب «وضع حد له». وبالفعل، ففي «أرخبيل الوعي الأوربي»، ينهار هذا السؤال في بعض الجزر. وينجز المنطق تقدمه من دون البحث عن الطريقة التي يدين بها العقل. معتبرًا التشبث بالعقل فعلًا متأخرًا في الفلسفة.

(…) [ص. 265] سوف نلحظ، أولًا، أن كانط وفيشته (Fichte) قد قاما بتمييز، وثيق الصلة، بالفصل بين الفاهمة والعقل. فبالنسبة إلى كانط، وخاصة إلى فيشته، فإن إدانة الفاهمة لم تكن بلا استئناف، وعلى أي حال لم تستلزم، بحكم الواقع، إدانة العقل. هذا هو التمييز الذي يجب تناوله حتى لو ادعى فيورباخ -وهذه نقطة ضعف- أنه يلغيه ويحرمه من كل أهمية. وإذا نظرنا إلى اللحظات العظيمة للفلسفة فسنرى في هذا التمييز قوة كبيرة. وتباعًا، فإن ما يصبح مفهومًا ويخشى دائمًا، هو أن الفهم لا يصبح متحررًا، تمامًا، ويسير في طريقه بشكل أعمى، ويحصل على انتصارات مشكوك فيها.

(…) [ص. 266.] لقد حاولت أن أبين، في كتابي المخصص للنظرية الكانطية للتاريخ، الشكوك التي سكنت كانط. فالفهم مدفوعًا بقوة الأشياء، ينشئ الشيء من دون أن يعطي، أبدًا، النتيجة الحقيقية التي تتمثل في معرفة الفائدة التي يجب الإفادة منها، وما إذا كان ينبغي الإفادة منها. ومع ذلك، كان كانط، على شاكلة فيشته، يثق في العقل بوصفه قيد التقدم.

كان الإيمان بالعقل، في عصر كانط وفيشته، موصولًا بالإيمان بالتقدم. ولكن، على نحو النقيض الغريب، أدى تقدم الفهم وتقنياته إلى شكوك عميقة، بما يكفي لإيجاد بعض العقول الفاشلة غير المسبوقة للعقل البشري. وعلى هذا الأساس نفهم لم يرفض شيستوف كل هذا العالم من الحرب والدم، ويستقر في فلسفة سلبية، تركز على التعالي وحده. وبسبب انعكاس طبيعي يتنازل عن العرش من خلال تقديم نفسه كقوة من الاستجواب الميتافيزيقي، معتقدًا أن أفضل نتيجة تكمن في إظهار عدم وجود استنتاج معقول، واستبدال الكينونة أو مسألة الوجود بالتفكير في الموضوع. إن رفض هذه الحركة الديالكتيكية، ورفضها بوصفها بلا معنى لأنها في ذاتها استقالة؛ وفي كلمة، إن رفضها بوصفها شيئًا محرجًا، سيكون خطًّا مأساويًّا. قال ليبنتز: «أنا لا أحتقر شيئًا تقريبًا». فَلْنَقْتَدِ به ولا نحتقرْ توجيهاته هذه.

___________________

عن كتاب:

ألكسيس فيلوننكو، «أرخبيل الوعي الأوربي»، باريس، برنار كراسي، 1990م.

ملحوظة 1: أرقام الصفحات الواردة في الترجمة العربية، بين معقوفين، متوافقة مع أرقام الصفحات في النص الفرنسي (الأصلي).

ملحوظة 2: العناوين الفرعية داخل المقال، غير الواردة في النص الفرنسي، والموجودة في الترجمة، هي من اقتراح المترجم؛ وذلك تيسيرًا لفهم النص الأصلي نظرًا لطوله.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق