السمع لا يفكر - عبد الصمد زهور - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأحد، 28 مايو 2023

السمع لا يفكر - عبد الصمد زهور


تمهيد:
كثير من المشاكل التي تعترض راحة الإنسان وتعكر صفو حياته مردها للقيل والقال، أي مردها لما نستدخله من أفكار عبر السمع، والحق أن السمع لا يفكر، بحيث يكون الذي يحكم بواسطته على غيره من الناس منفعلا وليس فاعلا، وهو يَنْجَّرُ بذلك إلى مرتبة دنيا في مراتب الموجودات، بحكم أن مرتبة الإنسانية قرينة القدرة على التفكير، والتفكير فعل وليس انفعالا.

إن الحُكم المتسرع على الأشياء والأشخاص بالسمع مرض اجتماعي وجب استئصاله عبر تدريب النفس على التحليل والتمحيص، أو لنقل باختصار تدريبها على التفكير النقدي critical thinking ، فالسمع ليس مذموما فلسفيا ومعرفيا وأخلاقيا فحسب، بل هو مذموم كذلك دينيا، ولذلك لا ينبغي التعويل عليه، وعليه فقط، في صياغة الأحكام والاطمئنان لها.

هذا الذم الديني يمكن الوقوف عليه من خلال قوله تعالى في الكتاب العزيز: “يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ، فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين”(سورة الحجرات، الآية 6)، وفي ذلك تأكيد صريح على ضرورة التبين من المسموع قبل جعله قاعدة للحكم على الآخرين، إذ بغير ذلك قد يكون تصرفنا موقعا للأذى في غير محله.

تبعا لذلك سيكون غرضنا من هذه الورقة هو الكشف عن الطابع المذموم للانفعالات التي يكون مصدرها السمع وحده، ومرتكزنا في إبراز ذلك مرتكز فلسفي بالأساس، يجد جذوره في شذرات الفيلسوف هيراقليطس Heraclitus في الحقبة اليونانية القديمة، وفي أعمال فيلسوف سرقسطة أبو بكر ابن باجه في المرحلة الوسيطة الإسلامية، وفي فلسفة إيمانويل كانط Immanuel Kant، لفيلسوف الألماني الحديث، وصولا إلى الأعمال الفلسفية المعاصرة التي تجعل من التطور التقني وكيفية فاعليه السمع عبره موضوعا لها، مع العلم أن منهج النظر في الموضوع لن يتخذ صبغة أكاديمية، بل يندرج في إطار نشر ثقافة فلسفية تنويرية، تربط النظر بالعمل، وتربط الفلسفة بالحياة.

العيون شواهد أكثر دقة من الآذان

لقب الفيلسوف اليوناني هراقليطس بفيلسوف الحركة، لأنه آمن بأن التغير هو القانون الأسمى الذي يحكم الكون، والحركة في الكون تدرك بالحواس، وأسمى الحواس تيقنا من إدراك الحركة هي حاسة البصر، وليس حاسة السمع، وعليه يكون الحكم على الموجودات بأنها في حركة من منطلق السمع وحده غير كافٍ، إذ لا يقطع الشك باليقين إلا بعد التحقق البصري من حركة المتحرك، بحيث تكون العيون شواهد أكثر دقة من الآذان.

هذه النظرة الفلسفية التي ساقها هيراقليطس في علاقته بالطبيعة يمكن تعميمها فيما يتعلق بالعلاقات والشؤون الإنسانية، فكثر من الأخبار التي تنقل إلينا بالسمع ينفي البصر كونها حقيقة، وكثير منها يتم الإقرار به كحقيقة لا تقبل الشك بعد التحقق منه بصريا، فأن ننقل عن شخص أنه مدمن مخدرات، قول ما يزال في دائرة الكذب، وهو لا يخرج منها إلى دائرة الصدق إلا بعد أن نرى علامات الإدمان عليه، أو نراه وهو في حالة تعاطي، وقس على ذلك فيما يتعلق بجميع القضايا الإنسانية خصوصا المصيرية منها التي لا تقبل الأحكام فيها التدارك.

الإنسان الذي يتحرك عن سمع، إنسان سوء البهيمة خير منه

إن الإرادة سمة مميزة للفعل الإنساني عن سائر الموجودات، وهو ما وضحه ابن باجه، فيلسوف سرقسطة، عندما أكد أن الذي يتخلى عن إرادته، إنما يتخلى على ما هو إنساني فيه، بحيث تقترب تصرفاته من الانفعالات الحيوانية أو غير ذلك من الموجودات التي هي في مرتبة دنيا مقارنة بالإنسان.
إن الإنسان يُحرك بإرادته الحيوان، والنبات، والأحجار، غير أن عاجز عن أن يحرك الإنسان الذي يوجد إلى جانبه إلا بإرادة من هذا الأخير، ومعنى ذلك أن التحرك بإرادة الغير دون أن تتوافق هذه الأخيرة مع إرادة الذات بسب خمولها، هو شبيه بتحريك الإنسان لحجر أو طاولة.

إن الحركة الإنسانية حركة إرادية؛ ومعنى ذلك أنه نتاج روية وتفكير، وعليه يكون الذي يكتفي بالسمع شبيها من حيث حركته بحركة الحيوان وما دونه مرتبة من الموجودات، بل إن الحيوان يكون أرقى منه لأنه لا يوجد في قواه النفسية ما هو أعلى من درجة الانفعال، عكس الإنسان الذي يكون في حالة السمع فقط قد تحرك ليس بأرفع درجة ممكنة لديه بل بأوسطها، وعليه يقول ابن باجه في سياقه الإشكالي إن الإنسان الذي يتحرك عن شهوة إنسان سوء البهيمة خير منه، ونقول نحن في سياقنا الإشكالي إن الإنسان الذي يتحرك بسمع دون تبصر إنسان سوء البهيمة خير منه.

السمع في مواجهة التفكير

أقام الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في مقال له “حول التربية” تمييزا بين تعليم الأفكار وتعليم التفكير، وأقام على منواله تمييزا بين تعليم الفلسفة وتعليم التفلسف، ويمكن أن نقيم نحن على منوال هذا التمييز تمييزا آخر بين التلقي والفحص، بحيث يكون الأول مفعولا للسمع والانفعال، ويكون الثاني مفعولا للفحص والفعل.
إن الركون إلى ما يتأتى لنا عن طريق السمع دون جعله موضوعا للسؤال، بما هو فحص وتمحيص وتدقيق وتحقق، سيقود لا محالة إلى تعطيل الملكة التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات، وهو ما عبر عنه كانط في مقاله “ما التنوير؟” عندما قال أن الطبيعة حررت الإنسان عندما منحته العقل، وعليه يكون عجزه ليس عجزا في العقل، بل عجز في استخدام العقل الذي هو مسؤول عنه، وهذا هو ما يحدث بالضبط عندما يتوهم الواحد منا الحقائق مسنودا بالسمع، فتهوي به أسانده نظريا إلى الخطأ، وعمليا إلى الظلم وإشاعة الكذب.

التكرار والسمع: وجوب الحذر من القوة الإقناعية للتكرار

تنطبع حياة الإنسان في الفترة المعاصرة بطابع تواصلي، فالتواصل سمة العصر، ومرد ذلك إلى الحضور الواسع لتقنيات الإعلام والاتصال في حياة الإنسان، خصوصا مع الجيل الجديد المرتبط بالهواتف الذكية التي صارت تعلب الأدوار التي كانت تلعبها الصحافة والمذياع والتلفزيون وقاعات السينما مجتمعة. وعليه تُعتمد هذه الأخيرة، بسبب هذا الشكل من الحضور، لتحقيق أغراض تجارية عبر آلية تواصلية هي الإشهار، والإشهار تستند قوته الإقناعية على التكرار وعلى حضوره في وقت الذروة، فضلا عن باقي العناصر الجمالية الأخرى المشكلة له.

إن الإشهار يخبرنا عن السلعة، وليس العيان كالخبر، ومعنى ذلك أنه يستهدف السمع الذي يتوج بالبحث عن المحلات التي توجد بها السلعة في أفق اقتنائها، أي أنه يؤثر في السلوك الاستهلاكي للمستمع/ المشاهد، علما أن فعل المشاهدة نفهمه ها هنا على أساس أنه جزء من السمع بحكم أنه جزء من خبر، حيث إن التركيز على المحتوى اللفظي أو المرئي للخطاب الإشهاري، يكشف عن كونه لا يستهدف الكشف عن مكونات السلعة، وتأثيرها على صحة الإنسان أو تأثيرها على هوية المجتمع حسب اختلاف السلع وتنوعها، لذلك وجب أن يكون كل مضمون إشهاري موضوعا للتحليل من قبل المتلقي/ المستهلك المحتمل، من أجل الوقوف على مدى خدمته الفعلية للصحة البدينة والأخلاقية للإنسان.

هذا المبتغى المعلن عنه من خلال إخضاع المسموع للفحص والتحليل هو الذي أكدت على ضرورته الفلسفة المعاصرة التي وقفت على محدودية التصريح بالحقيقة في الخطابات الإشهارية، وهو ما نلمسه من خلال أعمال فلسفية مهمة منها على سبيل المثال الأطروحة الأساسية لجيل دولوز Gilles Deleuze حول “الاختلاف والتكرار” وهي تكشف عن الكيفية التي يأسر بها التكرار حرية الوجود الإنساني، عبر قتل الاختلاف وتوجيه الاختيار، وهو ما يؤمنه السمع ويعززه التكرار. وكذلك العمل التحليلي المهم الذي كشف فيه جان بودريار Jean Baudrillard عن طبيعة “المجتمع الاستهلاكي” وآليات تبلوره وعلى رأسها السمع مشفوعا بقوة التكرار الإشهارية، بحيث تحول الاقتصاد إلى اقتصاد ليبيدي بلغة سيغموند فرويد Sigmund Freud التي قرأ من خلال جان فرنسوا ليوطار Jean-François Lyotard مجتمع القرن العشرين.

خلاصة:
لقد عملت الفلسفة تاريخيا على ملاحقة السمع، سواء في المرحلة اليونانية القديمة مع هيراقليطس، أو في المرحلة الوسيطية الإسلامية مع ابن باجه، أو في المرحلة الحديثة مع إيمانويل كانط، وصولا إلى المرحلة المعاصرة من خلال الأعمال الفلسفية لكل من دولوز وبودريار وليوطار، والسمع هنا مفهوم على أنه تسليم بالفكرة وارتكاز عليها في الحكم بدون إخضاعها لما يجعل الإنسان إنسانا من عملية ذهنية قوامها التحليل والتمحيص والنقد واستقصاء الحقيقة، فالسمع لا يفكر، والتعويل عليه وحده في صياغة الأحكام حول الأشخاص والأشياء عادة يقود إلى نتائج سلبية، لازمة عن قتل قدرة الإنسان على التفكير.

لذلك يتوجب أن يتسلح الإنسان، خصوصا في ظل عيشه في مجتمع المعرفة الذي يتميز بسرعة تداول المعلومات والأخبار، بمهارات التفكير النقدي، وهي مهارات تجد سندا لها في ما راكمته الفلسفة من خبرة في ملاحقة الباطل والكذب والتناقض والخطأ تاريخيا، ضمن مجلاتها الأخلاقية والمنطقية والمعرفية، فتدريب الإنسان على عدم الارتكان للسمع وحده، هو درس حول معنى أن نحيا فلسفيا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق