حين وصلت الفندق القديم الذي تعمل فيه " لورا" كانت الساعة قد قاربت الثامنة مساءً.
تطلعت في وجوه موظفات الاستقبال فلم تكن بينهن. خطوت هناك وسألت فتاة بجسد جذاب إن
كانت " لورا" موجودة؟ فردت عليّ بأنها في إجازة لمدة سبعة أيام، هل ترغب
بترك رسالة في ماكينة تلفون منزلها؟ قلت نعم، وتركت لها رسالة، أخبرتها فيها:
" بأني قدمت من مدينة فينيكس قبل دقائق، وسأقوم بالنزول إلى أسفل الوادي في
صباح الغد. وإذا كانت لديها رغبة في لقائي سأكون في "الحدائق الهندية"
في الثالثة ظهرا.ً ثم سألت الموظفة ان كانت لديها غرفة فارغة أمضي فيها ليلتي؟ قالت:
للآسف وهي تعطيني عنوان فندق آخر. شكرتها وغادرت.
في الخارج كانت نجوم كثيرة ترسل ضوءها فوق سماء الوادي فبدت جدرانه كمهبل ضخم
تحيطه الأسرار والغموض. دخلت البار المطل على الوادي من حافته الشاهقة، كان هناك
بضعة أشخاص متناثرين في المكان، جلست وطلبت بيرة وأخذت أفكرّ في لورا. كانت في
الثامنة أو التاسعة عشرة من عمرها، بجسد معتدل الطول ينبض بالجاذبية في كل جزء
منه، لدرجة ما ان وقفت أمامها حتى فقدت القدرة الإرادية في السيطرة على أعضاء
جسدي. فازداد خفقان قلبي وتدفق اللعاب في فمي وارتفع نسيج سروال النايلون القصير
الأسود الذي كنت أرتديه بشكل حاد، مما جعل لورا تضحك وهي تتطلع إلى وسط جسدي.
لقد عرفتها في العام الماضي في إحدى رحلاتي إلى الغراند كانيون Grand Canyon، كنت أسير نازلاً
قرب الحدائق الهنديةIndian garden متفائلا ًومبتهجاً بالروعة الكونية التي تحيطني، بينما هي في طريق الصعود. حين
رأيتها لم أصدّق نفسي. أخذ يتطلع أحدنا للآخر، وعندما اقتربنا جداً من بعضنا
تباطأت خطواتنا وخرجت كلمات ترحيب من أعماقنا. بعد أن تعرفنا على بعضنا، سألتها إن
قدمت لوحدها؟ ردت: نعم، إني من سكان الوادي، نعيش أنا وأختي مع والدينا في منزل لا
يبعد سوى عشر دقائق عن حافة الوادي.
كنت أتطلع إليها وحريق كبير يتوهج بأعماقي أحاول إخماده أو السيطرة عليه
بالتطلع إلى مياه الخليج الصغير المنسابة بين الصخور.
قلت لها:
- هل بدأت النزول هذا الصباح؟
قالت:
- لا، أمضيت ليلتي بغرفة في الحدائق الهندية
وها إني أصعد ثانية.
سألتها:
- كم استغرق الحجز.
قالت:
- لا شيء، لأني أعمل في الفندق القديم
الموجود في الأعلى ولدينا غرف هنا تابعة له.
ثم أردفت:
-وأنت ما هي وجهتك؟
قلت:
- أريد ان أنزل إلى "المزرعة
الشبحية" وأعود في اليوم نفسه.
قالت:
- ذلك يتطلب عشر ساعات من النزول والصعود،
إلا أنك بساقين قويين ويمكنك أن تفعل ذلك كما أرى.
شكرتها.
فقالت:
- سنتحدث قليلاً، إنها استراحة جيدة لي، لقد
غادرت المزرعة قبل ثلاث ساعات ويلزمني ساعتين أخرى من التسلق كي أصل الحافة.
ثم جلستْ بشكل عفوي قرب أحراش من زهور بألوان حمر وصفر و زرق وبيض تنبثق من
بين الصخور. قلت لها ما أروع هذه الزهور التي تجلسين قربها، كأنك زهرة أخرى
بوريقات من شعر ذهبي وفمك كأنه ميسم ضاج بأسرار الأنوثة. وأنا أتطلع إلى فخذيها
الشقراوين و فمها الكبير المفعم بالحياة. كم أنت رقيق ومليء بالحياة، أخبرتني.
رغبة حارقة كانت تستعر في داخلي لو تبقى لورا فترة طويلة معي، لو أختلق حكاية ما،
سبب ما، وأجعلها تبقى قريبة مني بعض الوقت. وردت إلى ذهني بضع جمل من زبون ثمانيني
أميركي كان يتردد على محل الحلاقة الذي أعمل فيه. أمضى زمناً طويلا ًفي اليابان،
قلت لها:
- في مثل هذه الأيام يحتفل اليابانيون في
عيد تفتح الزهور.
قالت:
- لماذا يحتفلون؟
فأجبت:
- إن هذا اليوم هو بداية السنة الجديدة في
تقويمهم، إنهم يعتقدون بأنها تجلب لهم حسن الطالع والحظ السعيد، فإذا كانت السنة
الماضية غير جيدة ممكن أن تكون هذه جيدة، وأن كانت الماضية جيدة فيتمنون دوامها.
- وأنت كيف كانت سنتك الماضية؟ سألتني
وابتسامة طفولية ترفرف حول عينيها.
- لم تكن جيدة، في كل مرة أتصل بأمي في
العراق، تقول: ألم تتزوج بعد؟ كم أتمنى أن أرى ذلك قبل أن أموت. ما أودّه منك يا
لورا أن التقط بعض الصور لك ولنا سوية كي أرسلها لها وأخبرها بأني تزوجت وأننا
أمضينا شهر العسل في الغراند كانيون واليك الصور، وبهذا تنتهي قصة إلحاحها المزعج.
- هذا سهل جدا.
أجابت بإحساس مفعم بالكرم والبراءة.
وقفت وجلست في أوضاع مختلفة، لمست شعرها الدافئ وأنا أسوي قبعتها، أيضا شفتيها
المنفرجتين وأنا أزيح قشرا بنيّا التصق في زاوية فمها من فستق كانت تتناوله قبل ان
نلتقي إلا أنها ما زالت تمسك بالكيس. في إحدى اللقطات كانت تجلس على صخرة ضخمة
وبينما اقترب منها أخذت تردد:
- يا إلهي، يا إلهي ما أشد حرارة جسدك، كأنه
خلق توا من هذا التراب، وها هي روح الوادي تنبث فيه فتجعله مخلوقاً إنسانيا ًيشع
بالنضارة. لقد أضحكتني بقصة أمك وإلحاحها على تزويجك، نزلت عن الصخرة وهي ما زالت
غارقة في موجة الضحك فيتردد صدى ضحكها صافيا بين جدران الوادي.
قالت لورا:
- عليّ الذهاب الآن، لقد تأخرت.
قلت:
- هل يمكنني أن أعانقك؟
فرحبت فاتحة ذراعيها. وبينما أنا ألمس لحم كتفيها الدافئ نصف غائب عن الوعي،
شاما شذا جسدها ولهاث أنفاسها يتصاعد حولي، كما لو أنى لا أسمع صخب روح لورا
المبثوث في جسدها لوحده، بل ضحك وتفتح كل زهور الوادي وأشجاره وفراشاته المرفرفة
بين الصخور. أمسكت وجهها وقبلتها بعمق من فمها، وحين استرخت شفتاي منسحبة عن
وجهها، انقضّت هي عليّ بقبلة عميقة شعرت كما لو أن لساني انفصل عن فمي.
قالت:
- أودعك، لكني أعدك إذا جئت في السنة
المقبلة بمثل هذا الوقت حيث إجازتي المقبلة سنعمل شيئاً ما... وهكذا ودعتها بعد أن
كتبت عنوانها في دفتر ملاحظاتي.
شعرت بسعادة غامرة ونشاط وخفة في القلب. أكملت رحلة نزولي إلى المزرعة الشبحية
ثم عدت ثانية في اليوم نفسه إلى حافة الوادي لأعود إلى مدينة فينيكس التي أعيش
فيها. تبادلنا ايميلات قليلة ومختصرة، سألتني فيها عن الصور وأمي إن كانت قد كفت
عن إلحاحها؟ فأخبرتها أنني لسبب ما فقدت الكاميرا في موضع داخل البيت. فردت: لا
يهم سنعيد ذلك حينما تأتي في المرة القادمة. قبل شهر من رحلتي هذه انقطعت أخبارها
عني ولم ترد على ايميلاتي، كتبت لها باني سأزور الوادي في الموعد نفسه وأتمنى أن
أراك. غير أنها لم ترد. هذا آخر ما أعرفه عنها لحد هذه اللحظة.
رفع صاحب البار صوت جهاز التسجيل عالياً فغادرت. كانت أشجار الصنوبر تغطي معظم
أجزاء المكان. دخلت الفندق الذي كتبت لي عنوانه الموظفة التي تعمل مع لورا. في
الاستقبال تحدثت إلى امرأة بدينة لا أعتقد بأنها مشت ميلاً واحداً بشكل متواصل في حياتها،
عما إذا كانت لديها غرفة شاغرة؟ فأجابت بنعم وقدمت لي استمارة دونت فيها بعض
المعلومات. قالت: استرح سيأتي شخص ما لاصطحابك لغرفتك خلال دقائق. بعد نصف ساعة
جاءت فتاة تكاد تكون بحجم الأولى وقادتني إلى الغرفة. قبل أن تغادر أخبرتها أن
توقظني في السادسة صباحا. أخذت أتطلع إلى أعمدة سقف الغرفة الخشبية الضخمة السوداء
حتى استغرقت في النوم.
في السادسة رن الهاتف ليوقظني. فتحت الستارة، كانت خيوط فضية تغزو السماء
الشديدة الزرقة، دخلت الحمام حلقت واستحممت ورتبت أشيائي وخرجت. أوقفت السيارة في
الكراج العام. ثم حثثت خطواتي إلى طريق النزول، مررت بأناس يخطون قرب الحافة وهم
يتطلعون بدهشة لأعماق الوادي، تجاوزتهم وواصلت المشي بسرعة، حتى دخلت طريق برايت
أنجل bright angel مواصلاً الخطو للأسفل.
بعد ساعة من النزول رأيت صخرة ضخمة حمراء اللون تجثم بجوار الطريق، أحسست كما
لو أنني أرى أحشاءها من الداخل. تذكرت طفولتي، الأزقة خلف بيتنا، غرف البيت،
المستوصف الصغير جوار مدرستي الابتدائية حيث قناني الدواء البنية الكبيرة تبدو من
خلف زجاج النوافذ في المساء كأنها أشخاص واقفين، ملامح أمي المتغيرة دوما.
مرت بي قافلة من البغال يركب عليها أشخاص متقدمون في السن وصبيان يرتدون قبعات
قشيّة، كان بعضهم يتنقب بقطع من القماش المشجر أو يسدل حافة القبعة أسفل وجهه،
تنحيت قليلا عن الطريق متجنبا الغبار الذي تثيره البغال على جانبي الطريق ثم عدت
لأكمل نزولي. مررت بالحدائق الهندية، كانت تبدو مهجورة. بعد ذلك عبرت نهر كولارادو
حتى وصلت المزرعة الشبحية.
استرحت قليلا ثم شرعت بالصعود ثانية وأنا أتطلع إلى آثار خطواتي المنطبعة في
رمال صفراء كالذهب.
وصلت الحدائق الهندية قبل الثالثة ظهرا. استرخيت فوق مصطبة خشبية متأملا أوراق
الأشجار المتراقصة في الأغصان كأنها وريقات من ضوء معلقة في فضاء ذهبي. مرت أفعى
بطول قدم زاحفة بالقرب مني، رفعت رأسها قليلا من الأرض مادة لسانها الأحمر
المتراقص باتجاهي ثم ابتعدت لتختفي تحت شجرة بمحاذاة المصطبة. وعندما انتبهت إلى
المساحة أمامي رأيت لورا تقف قبالتي، كانت ترتدي الشورت نفسه والقميص( الفانلة)
البيضاء، قلت لها:
-لورا أرجوك ابتعدي عني، إني أحلم .
قالت: لا، أنه واقع وأحببت أن أفاجئك، كنت هنا منذ ثلاثة أيام وأعتقد بأنني
رأيتك وأنت تخطو باتجاه المزرعة الشبحية. لكنني قلت لنفسي دعيه يذهب ويعود ليكون
قد استمتع بكل جوانب الرحلة..
نهضت من مكاني وعانقتها بحرارة، في تلك اللحظة قلت حتى لو أموت الآن فإني غير
نادم، أعتقد بأن كل ما حدث لي سيبقى في معلقا في زاوية ما من الكون. ذهبنا إلى
مطعم صغير، يدعى Karntina ، وتناولنا الطعام.
لم يتغير شيء في لورا خلال السنة التي مرت، عدا كونها أقل انطلاقا وسعادة مما كانت
عليه في المرة السابقة. في هذه المرة أنها اقرب للبرود أو الحزن،
أو تبدو معتلة الصحة على الرغم من ان جسدها بقي على حاله حسب ما أتذكر. بين لحظة
وأخرى أمسك يدها أو ادخل أصابعي بين أصابعها الرشيقة، أعانقها، أشمها أو اقبلها،
إنها مستجيبة لي جدا، وشيئا فشيئا لاحظت أنّ نشاطا حسيّا يستيقظ وراء حدقتي عينيها
الزرقاوين، وأن نظراتها التي كانت فاترة تحت جفني عينيها المسترخيين، أصبحت أكثر
انتباها وتقوس حاجباها بلطف. هل عليّ أن أذكر هنا أو أميّز أو أفصّل بين ما أحسّه
وما أراه؟ هل أننا وعيان منفصلان؟ أعني وعي لورا ووعيي؟ لا أعتقد ذلك. ما أشعره من
حماس انتقل إليها وها هي النار تبدأ في الاستعار وتذكي مكامن جسدها الهاجعة، ثم
شيئا فشيئا قادتني الى مياه الخليج وهي تضع يدها اليسرى حول خصري مشيرة بيدها
اليمنى عاليا وتردد: ما أجمل الصخور، ما أجمل النسيم، ما أرق ماء الخليج البنفسجي،
يا لروعة جسدك، يا لجمال انتصابه وهي تلهو في المياه وترشها بفرح على أسفل بطني.
هل تعلم أنّ مياه هذا الخليج مضى عليها ملايين السنين وهي تنساب بين الصخور، اني
من سكان الوادي وقرأت عنه المزيد، وفي مرات كثيرة رأيته في أحلامي وأحسست بنبض
روحه يتردد في الأعماق وهو يتسلق الى بيتنا ليطأ جسدي مرات لا تحصى.
- تعال لأريك غرفتي، قالتها وهي تجرني بلطف
من يدي، لكني أودّ أن تعرف قبل ان تلجها ان كل شيء فيها صنع من الوادي، السقف الخشبي،
الجدران الصخرية، السرير، النوافذ، الزجاج، المرايا.
كانت ثمة غرف منفصلة عن بعضها تنتشر على مسافات متباعدة، وليس ثمة إدارة او
استعلامات في المكان، عدا بعض الحراس الخفيين يترددون في المكان بين لحظة وأخرى.
أدارت المقبض لتفتح الباب الخشبي. كانت غرفة متواضعة جدا، سرير خشبي مزدوج تغطيه
بطانية أرجوانية اللون مثنية قرب وسائد سماوية، وأربع نوافذ متواضعة واحدة في كل
جدار، أسدلت فوقها ستائر من دانتيل أبيض. قالت:
- هل تحب ان تأخذ دوشاً؟
خلعت ثيابي ورميتها على السجادة وحين فرغت وجدتها عاريةً تماماً بجسدها الأشقر
بينما مصباحان منضديان يسقطان بضوئهما على امتداد البطانية التي تشغل فخذيها، فبدت
أعضاؤها كما لو أنها تتوهج من الداخل وليس بفعل الضوء المنعكس عليها. قلت لنفسي
عليّ أن أنقش تفاصيل جسد لورا بذاكرتي، عليّ أن افرغ ذاكرتي من جميع محتوياتها
لتعمل على نحو أفضل، عليّ أن أنسى كل ماضيي إلا اللحظات الحاضرة، وأن أسيطر على
نفسي قدر ما أستطيع كي أتمتع برؤية جمال لورا. كنت أتمنى لو أنى عشت حيوات عديدة
وطورت قدرة التذكر بحيث ما أن تقع نظراتي على جسدها حتى يتحول ذلك الجسد إلى خبرة
فاعلة تنبض بداخلي، ولكن هيهات ذلك. اقتنعت بقدرة ذاكراتي الحالية وأنا أنظر إلى
شعرها الأشقر متوسط الطول الذي تناثرت خصلات متموجة منه على الوسادة الزرقاء كأجساد
تعانق بعضها البعض، ثم عينيها الزرقاوين، أنفها بمنخريه الصغيرين جداً، أسنانها
الكبيرة وعنقها وقلادتها الصغيرة بالصليب الفضي، شعر إبطها الناعم، نهديها
الصغيرين المتنافرين بخجل، بطنها الضامرة، سرتها، الشعر البني الخفيف المحدد
بالحلاقة على شكل مثلث مقلوب الرأس نحو أسفل جسدها، عضوها وجذري فخذيها وركبتيها
وأظافر قدميها المطلية بالأحمر.
أمضينا ساعتين في الفراش.
قالت:
- إنني في حالة شفاء ومتعة،
قلت لها:
- هل يمكنني أن أمضي الليلة معك؟
قالت:
- لا ،عليك أن تغادر لأني سأعود في قافلة
البغال القادمة من المزرعة والتي ستصل بعد قليل. وحينما طلبت منها ان نتواصل في
المستقبل، قالت: كفى لقد عاد كل شيء إلى وضعه الطبيعي. واني أشكرك جدا على هذا.
أرجوك ان تغادر الآن وهي تتطلع الى حذاء التسلق المكسو بالتراب الأحمر وفانلتي
والشورت والجوارب.
كنت كلما حاولت ان أجعل نفسي قريبا منها، كلما نأت هي أكثر فأكثر. لا أعرف
لماذا غيرت أسلوبها ظننت أني أسأت التصرف في شيء ما على الرغم من أنى كنت أسمع
أنينها يتردد خارج الغرفة مختلطاً بصوت المياه المتساقطة من أعلى الصخور. لاحظت
أيضاً أمواج السعادة التي كانت تطفو على ملامح وجهها على نحو متوال مندفعة الى
ساقيها وقدميها لتنحسر عن البطانية التي تندّت برذاذها. استبعدت المشاعر السلبية،
واثقا من اللحظة التي كانت لورا واقعة تحت تأثيرها هي لحظة سعادة حقيقية. ارتديت
ثيابي وعانقتها مودعاً، قالت أتمنى لك حظاً سعيداً، وأغلقت الباب ورائي.
عدت إلى فينيكس منتعشاً وحزيناً في آن واحد، كما لو أني أتحاشى التفكير فيما
ما حصل لي خشية من قصوري في الاستيعاب، منتظراً أن يمر بعض الوقت لاسترجع الأحداث
بشكل أكثر وضوحاً.
بعد ثلاثة أيام اتصلت بالفندق الذي تعمل فيه لورا، فردت عليّ امرأة بصوت أجش
وقبيح، طلبت منها أن أتحدث مع لورا قالت: دقيقة من فضلك. ثم عادت لتقول بأنها
مشغولة. اتصلت في صباح اليوم التالي فرد عليّ صوت رجل أنثوي أن لورا تعمل في نوبة
المساء. وهكذا في كل مرة أسمع خبراً بغيضاً. كتبت لها مرات عديدة ولا جواب. في أحد
الأيام طلبت من أحد زبائني الاتصال بالفندق من تلفونه النقال والتحدث إليها فردت
عليه، وحين أخذت التلفون منه كي أكلمها أغلقت الخط.
بعد بضعة أيام تلقيت رسالة بالإنترنت منها، كانت بهذا الشكل: " أرجوك أن
لا تتصل بي على الفندق فتسبب فصلي من العمل. أيضا أتمنى أن لا ترسل لي رسائل. إني
الآن متزوجة وسعيدة. وان التي التقيتها في الحدائق الهندية قبل أسبوعين ليست أنا،
بل أيمي شقيقتي، توأمي المتماثل. حين قدمت أنت إلى الغراند كانيون، كنت أنا في
إجازة زواج في باريس، وحين اتصلت في البيت لأفحص ماكينة تلفوني سمعت رسالتك،
فاستعدت ما أتذكره في السنة الماضية معك، كان أشد انطباع تخلف في ذهني أنك تتمتع
بحيوية كبيرة أثرت بي، أنا الفتاة التي أعتبر نفسي باردة تجاه الرجل، لقد أضحكتني
قصة زواجنا المزعوم وأثارت حواسي فاستجبت لك كي تلتقط لي الصور وترسلها لأمك، على
الرغم من أنك ذكرت في مجرى حديثك أن أبويك متوفيان. كانت شقيقتي التوأم أيمي تمر
في كآبة عميقة أفضت بها للانفصال من زوجها، ففكرت بك، أو لا ادري لماذا رأيت بأنك
ممكن ان تقدم خدمة لي أو لأختي، فاتصلت بالفندق ورتبت حجزا فيه ثم تكلمت مع أختي
التي تسكن على مبعدة دقائق قليلة من حافة الوادي ولديها فكرة ما عنك من لقائي
السابق معك. جاءت مع قافلة البغال التي ربما لاحظتها تمر بك بين العاشرة والحادية
عشرة. ربما أنك لم تلحظ أختي بسبب قبعة القش الكبيرة التي كانت تسدلها على وجهها.
أن ايمي استمتعت حقا بالوقت الذي قضته معك فعادت إلى وضعها الطبيعي واستأنفت
حياتها الزوجية. وأنا أيضا سعيدة في حياتي وعملي، ما أودّه منك أن لا تتصل بي
للسبب الذي ذكرته لك ولا ترسل لي رسائل أخرى، أمنياتي لك بحظ سعيد. لورا.
هكذا فرغت من قراءة رسالة لورا وأنا في ذهول، في ذلك الوقت كنت قد وجدت
الكاميرا وطبعت الصور التي التقطتها لها، فأسرعت بإخراجها وأخذت أنظر لها تحت ضوء
المصباح المنضدي. ركزت نظري على الصورة التي تجلس فيها وهي تفتح فخذيها كأنها
نائمة أو غافلة دون سروال داخلي، رأيت ثلاث شامات بحجم حبة العدس في جذر فخذها
الأيمن تشكل مثلثا يشير إلى مركز جسدها. قارنت الصورة بالصور المطبوعة في ذاكرتي
بوضوح أكثر توهجا من الورق فلم أجد أي أثر أو علامة على جسد أختها أيمي. خطرت
بذهني أفكار عديدة تتعلق بالعلامة الفارقة، فقلت ربما هي آثار أذى تعرضت له لورا
في طفولتها، أو أن والديهما فعلا ذلك لتميزهما حينما كانتا صغيرتين، أو هو وشم
أحبت لورا ان تفعله في جسدها. تمنيت للورا وشقيقتها أيمي الفرحة البالغة رغم
خدعتهما الجميلة، فاتحا قلبي لثراء الحياة الذي لم أكن أتوقعه أن يكون بهذا الشكل
في يوم ما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق