إذا كانت الشاشة بشتى أنواعها (التلفاز و السينما و الهاتف النقال و الحاسوب) دائما ما تنجح بسهولة بفضل حبكة الصور في خلق نوع من الفرجة الممتعة لدى المشاهد،
فهي من خلال هذا الفيض الزائد من المتعة أيضا تجعله في الحقيقة يحيا فانطازمات
أبعد ما تكون عن الواقع .لعل ذلك هو ما يكشف لنا اليوم أكثر من أي
وقت مضى عن الجانب السلبي للشاشة التي سرعان ما هيمنت على حياة الناس و أضحت تتحكم
في أحاسيسهم و تسوس عواطفهم ما أن تمكنت من أن تزج بالمتفرج في عالم وهمي و أن
تجعله يحيا فيه كعبد مسلوب الارادة كليا .هذا ما لاحظته مثلا عندما تابعت مؤخرا
فيلما يروي سيرة سارتر و سيمون دو بوفوار على نحو يكاد يوجز فيه المخرج حياة
الفيلسوفين بشكل مغر و محبوك ينتهي بشد المتفرج الى سلسلة من المشاهد المتتالية و
إغراقه في نشوة منقطعة النظير .نشوة لا تجعله يستمتع و يستلذ فحسب بل تعمل أيضا و
هذا هو الخطير على الزج به في عالم وهمي و مزيف مفارق تماما لما عاشه المعنيين
واقعيا بعيدا عن الأدلجة و لعبة المونطاج.و الحق أن ما حرص المخرج على تغييبه في
هذا الفيلم من حقائق أخطر بكثير مما عرضه ، سعيا منه و هو الأهم الى خلق المزيد من
الأوثان في ذهن مشاهد أعزل لا يقرأ السير الذاتية و لا يأبه بالتاريخ المدوَّن
.مشاهد كسول ،يتفرج فحسب و لا يستطيع جراء سطو التقنية و سيادة روح التسطيح بدْل أدنى
مجهود سواء بتفحصه للتاريخ الفعلي أو بنبشه في المكتوب و العودة إلى ما تراكم من
مقروء .لذلك و غيره كنت و مازلت أصر على التوكيد على فعل القراءة باعتباره الفن
الوحيد الذي يبني لدى من يدمن عليه حس مقاومة الرداءة و الانفلات من طغيان
الايديولوجيا .و إذا كان هذا الفيلم للتذكير يرمي إلى تقديم سارتر كبطل و فيلسوف
له من الصيت ما يكفي للخلود، فالتاريخ المكتوب يروي عن سيرة رجل لا يستحق كل هذا
التبجيل .آيتي في ذلك أن سارتر و بوفوار ماقبل الحرب العالمية الثانية ليس هو سارتر و
بوفوار مابعد الحرب . الحاصل أن الفيلسوف لم يكن قبل الحرب ينشغل بمعية خليلته
بالسياسة ils étaient apolitiques .و ما أن عم الاحتلال حتى صارا معا انتهازيين بكل ما يحمله التوصيف من دلالة،
ليغدوا فيما بعد الحرب منافحين عن الطغاة المناصرين لليسار .و يكفينا توضيحا لهذا
الأمر الاشارة الى أن الاثنين قد سافرا معا عام 1937 في عطلة الى إيطاليا بفضل
تذاكر مخفضة الثمن مهداة من لدن نظام موسولوني .و فضلا عن ذلك،لا يخفى على المهتمين
أن رائد الوجودية قد كتب في مجلة كوميديا الموالية للنازية مرتين اثنتين أي عامي
1941و1944. و هي المجلة ذاتها التي احتفت به كأفضل كاتب في سنة 1943. هذا ناهيك عن المبادرة التي أقدم عليها مدير هذه المجلة و التي بفضلها جرى
توظيف سيمون دو بوفوار في راديو فيشي عام 1944. على هذا النهج وخلافا لما يعرضه
الفيلم المذكور ،نلاحظ كيف استرسل الفيلسوفان في اقتناص الفرص بحيث بدل الاكتفاء
بهذا القدر مضى كل منهما يعلن مناصرته للاتحاد السوفياتي ما أن انتهت الحرب و صارا
معا يدافعان عن الغولاغ كما ساندا كاسترو و الكوري كيم يونغ الثاني و ماو سيتونغ
...و بهذا الشكل يكونان أكثر انتصارا للعنف كأداة، خاصة ان كانت الغاية منه خيرة
بدعوى شعار معهود مافتئ يقر بأن الغاية تبرر الوسيلة.
مدارات ثقافية : مُجلةة فكريّة ثقافيّة ألكترونية تهدف
لخلق هامش للتّفكير الحرّ المستقلّ والمعرفة النّقديّة و
لربط الصلة بين الطاقات الفكرية والأدبية والفنية في العالم العربي بتوفير فضاء التقاء وتبادل وحوار و
العمل على نشر وتطوير المعرفة حول مبادئ حقوق الإنسان، وحول القيم السّياسيّة والأخلاقيّة الحديثة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق