بين مكة و لاس فيجاس - وفاء البوعيسي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

السبت، 21 مايو 2016

بين مكة و لاس فيجاس - وفاء البوعيسي


ثمة ظاهرة إجتماعية ثقافية تدعو إلى التأمل، إنها تخص من تتجاذب أجسادهم هويتين متعارضتين.
فبكل مكان تقريباً اليوم، يمكنك أن ترى فتاةً تغطي شعرها بحجاب إسلامي، أما باقي جسدها، فتكشفه الملابس الضيقة والمثيرة، عدا عن الزينة الفاقعة بالوجه، وكذلك الشاب، فالرأس تعلوه طاقية إسلامية، مع لحية على السُنة النبوية، وتيشيرت يحمل شعارات الإنعتاق والتمرد، وبنطلون جينز ممزق، منخفض الخصر يستعرض الملابس التحتية.
أجساد هؤلاء المسلمون مقسومة إلى نصفين، نصفٌ يهفو إلى مكة، بكل حمولاتها الروحية، وما تعنيه من  زهد في زخرف الحياة والإكتفاء بالجنة، ونصفٌ يهفو إلى لاس فيجاس، بكل حمولاتها المادية، وما تمثله من صخب، وحب الحياة والاستمتاع بمباهجها، والمسألة برأيي تتخطى المظهر الخارجي، لتعكس صراعاً داخلياً في عقول هؤلاء المرتبكون فكرياً، يتجلى في مراوحتهم اللاهثة بين هذين التوجهين المتنافرين.
قد تبدو المراوحة بين هذين التوجهين، مجرد تقليعات شاذة ووقتية سرعان ما تتبدد، لكنها في العمق تظُهر وجود سكيزوفرينيا ثقافية، تعاين وطأة الإنصياع للدين، كونه دلالة جودة أخلاقية حصرية بالمجتمع، وحرقة الرغبة في التمتع بالحرية الشخصية، والسعادة الذاتية، التي تمنحها وفرة الخيارات بالحياة العصرية، فتبدو معها أجسادهم وقد هبت عليها رياح التغيير، وبانت عليها مظاهر التعرية.
بين مكة ولاس فيجاس، أتخيل وجود جسرٍ متأرجح، تشتبك عليه مشاحنات محمومة، بين أنصاف تلك الأجساد المرتبكة، إلى أن ينجح أحدها في حسم الأمر، لهذا لا أستغرب رؤية أحدهم، وقد هجر المسجد إلى النوادي الليلية بين ليلةٍ وضحاها، أو هجر النوادي الليلية الى الجهاد مع داعش، فالإشتباك كان قد تجلى في اللا وعي، ثم أعلن عن نفسه بالمظهر، قبل أن يتخذ قراره فجأةً لصالح نصفٍ معين، كما يحدث أن يُصر البعض على الاحتفاظ بالنصفين معاً، فيُظهِر واحد ويُخفي الآخر بحسب الموقف، فلكل مقامٍ نصفه الخاص، لهذا تراه تارةً متدين ورع، وتارةً كافر بالدين والتقاليد.
هذه الظاهرة التي لم نواجهها بعد، لا تمر دائماً من دون مضاعفات ومخاطر جسيمة، فقد عاشها الشاب التونسي سيف الدين الرزقي، الذي تقول السلطات التونسية، ويُجمع كل من عرفه على أنه كان من متعاطي الزطلة (الحشيش)، ورافق إحدى بنات الليل لفترة، بل كان من هواة الـ "بريك دنس"، وعمل بمجال السياحة ليدبر مصاريف دراسته العليا، لكنه انقلب في فترةٍ قصيرة، إلى شابٍ متزمت ومنطوٍ على نفسه، وغير مظهره بتدريج بسيط، حتى فوجئت به تونس كلها، يحمل رشاشاً ويتسلل لفندق أمبريال مرحبا بسوسة، ويصوبه نحو المصطافين الأجانب حصراً، وكأنه يعاقب بهم الثقافة الغربية، التي تبناها لفترة طويلة من حياته، كما عاشها مغني الراب عبد المجيد عبد الباري البريطاني المصري، الذي عاش ولبس وأكل على الطريقة الغربية، لكنه هجر الراب الذي مارسه لسنين طويلة، ودخل بعزلة لفترة قصيرة، ثم ظهر فجأةً بهوية أخرى على النقيض منها، إذ التحق بداعش وأظهر شراسةً منقطعة النظير، جعلته يتصدر أخبار العالم، في ذبح الصحافيين الغربيين بالذات، أما حيا ة بو مدين فهي مثلٌ آخر، على التحول السريع من المايو إلى النقاب، هي مسلمة من أصل جزائري، خلوقة وديعة ومتحررة كلياً كما يقول جيرانها، انقلبت على البكيني حين تزوجت بأميدي كوليبالي، منفذ الإعتداء الشهير على متجر يهودي بباريس، وراحت تتلقى تدريبات على القتال معه، في منطقة جبلية وسط فرنسا، اشتُبه في تورطها معه بقتل شرطية فرنسية وباحتجاز أولئك الرهائن، لكنها نجحت في الفرار إلى تركيا، وانضمت إلى تنظيم داعش وصارت من مجاهداته.  
 قس على ذلك آلاف الحالات كل يوم، ممن يلتحق بتنظيم داعش، كالتوأمين الصوماليين سلمى وزهرة من بريطانيا، ومحمد إموازي الكويتي الأصل الشهير بالإرهابي جون، ومروان الدويري أو "إيمينو"، فنان الراب التونسي، كان قد آمن بالموسيقى والثقافة وثورة جانفي، ونجح في وضع بصمته الشرقية المميزة في عالم الراب، قدم أغنيات عميقة وجذابة، عن التغيير وأحلام الشبان من عمره، ظهر في صور كثيرة كشاب يحب الحياة، ويستمتع بوقته تماماً، صحبة الكحول والدخان والفتيات الجميلات، ليدخل في عزلة فجائية لفترة قصيرة، خرج بعدها ليعلن على صفحته بالفيس بوك، مبايعته لأمير داعش ووضع نفسه في إمرته.
وعلى الطرف الآخر تماماً، كثيراً ما صادفني شُبان مسلمون، كانوا على قدر عالٍ من التدين، حملوا فكراً استئصالياً ومتزمتاً للمخالفين لهم بالعقيدة، تحولوا إلى الإلحاد وتعصبوا له، صار همهم تسفيه المسلمين، وإطلاق مخزون هائل من السباب للذات الإلهية والنبي، والإساءة للرموز الإسلامية المقدسة، على طريقة الشتائم والإزدراء فحسب، ولم يتورعوا عن تمني الدمار لشعوب ودول إسلامية كاملة، كطريقة لمحو صورة المسلم التي تلبّسوها يوماً، وتقديم النموذج الغربي للحياة والتفكير، كنموذج فريد ومثالي، وكل من يرفض هذا الفكر، يُعتبر همجياً ومتخلفاً، يستحق الطرد من المملكة الإنسانية، بل ومن الحياة.
إن ما نراه من وجود شخصيات مسلمة متشظية كتلك، وقد انفجر بعضها في كل اتجاه، سببه أن العقل الإسلامي والعقل العربي كجزءٍ أصيلٍ منه، لم يُنجز بعد إحدى أهم أسئلة الإنسان المعاصر، وهي من أنا، وماذا أريد، وأعني بذلك سؤال الهوية، كما أنه لم يحسم صراع الإنتماء بالمنطقة، فلم يستطع تحديد إلى أي هوية بالتحديد ينتمي هو، هل إلى الهوية العربية أم إلى الهوية الإسلامية، أم إلى الهوية العربية الإسلامية، وداخل هذه الأخيرة، لم يستطع تحديد كيف يجب أن يُفهم الإسلام، وماذا يريد مسلم اليوم من دينه، أم أنه ينتمي إلى هوية وطينة جامعة، تتكئ على تاريخ وطني مشترك، لعموم الأفراد المتعايشين معه، حين قاوموا الإستعمار معاً، وعاشوا حياةً واحدة، وتشابه معهم في جوانب ثقافية وحضارية كثيرة، وهل بوسعه اليوم الإنخراط في الهوية الكونية للإنسانية جمعاء، بمعناها الفلسفي الإنساني، أم أنها عامل تغريب وغزو ثقافي كما يصر خصوم هذا الطرح، كما لم يستطع هذا العقل حتى اليوم، إنجاز سؤال المقاربة المأمولة للإسلام مع العصر، وتحديث الإسلام وإعادة قراءته من جديد، بل إنه عجز حتى عن التحاكم إلى قاعدة مشتركة من القيم المتفق عليها، رغم الاختلاف العقائدي والقومي والسياسي بينه وبين أولئك الأفراد، بل لعله لم يفلح في إنشاء قيم تعايش مشتركة، سواء مع نفسه أو مع الآخرين، لهذا نالت منه العولمة الإستهلاكية والإرهاب، وترك نفسه للتآكل والتشتت الفكري، وسيظل الحال كذلك، حتى يُحسم سؤال الهوية وتجديد الإسلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق