الماركسية والايكولوجيا – إتجاهات الحاضر - ثامر الصفار - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

السبت، 7 أبريل 2018

الماركسية والايكولوجيا – إتجاهات الحاضر - ثامر الصفار


” للوهلة الاولى يبدو المدافعون عن البيئة اناسا طيبين، مجانين الى حد ما،… اما الشعوب فهي مشغولة بما هو اهم، كتدبير القوت اليومي مثلا، ولكن يوجد عدد كبير من الناس هم مدافعون عن البيئة، واذا ما قيل لهم انتم بيئيون قد يستهزؤن من ذلك… ولكن ألسنا نحن ايضا ندافع عن البيئة عندما نطالب بمياه نظيفة غير ملوثة، او بهواء نقي نتنفسه؟” 
هوغو بلانكو 
فلاح من البيرو 

شهد العالم منذ خمسة قرون بدايات تكون المجتمع الرأسمالي، ولحظة انطلاق ثورة صناعية جبارة وضعت نصب عينيها تحقيق اكبر قدر من الارباح عبر استغلال تام للبشر وللطبيعة. وقد ادت الثورة الصناعية اضافة الى الاستعمار والثورة النفطية وتطور صناعة البتروكيميائيات الى نشوء عملية تراكمية للتخريب البيئي. 

ان ما نشهده اليوم من نتائج هذه العملية التخريبية والتي تتمثل في تلوث هواء المدن، والمياه، وارتفاع سخونة الكوكب، والتسارع في ذوبان جليد المناطق القطبية، وتكاثر الكوارث ” الطبيعية”، وبداية تدمير طبقة الاوزون، والاتلاف المتسارع للغابات الاستوائية، وإنقراض آلاف الانواع من الكائنات الحية، وإنهاك التربة، وتراكم النفايات، خصوصا النووية منها، وتلوث الاغذية، والتلاعب في الجينات و ” جنون البقر” و ” إنفلونزا الطيور”، وحقن لحوم الحيوانات الداجنة بالهرمونات، كل ذلك ما هو الا اشارات انذار على مدى خطورة الوضع الذي نعيشه والى صحة الموضوعة الماركسية حول العداء المستحكم بين الرأسمالية والبيئة، وبأن الركض الجنوني وراء الارباح، والمنطق الانتاجوي والتجاري للمجتمع الرأسمالي سوف يقودنا الى كارثة بيئية شاملة. وبالتالي فان الاعتراف بان التوسع الراسمالي يهدد بدمار الحياة البشرية على الارض ليس مبالغة على الاطلاق. 

ما العمل؟ 
نعم ، ما العمل لمواجهة هذه الخطر الماحق؟ ان الازمة البيئية التي نواجهها تستدعي بالضرورة احداث تغييرات جذرية. وقد ظهرت خلال السنوات الثلاثين الماضية عدة تيارات فكرية تسعى لوضع حلول مقبولة. ويبدو ان من المفيد استعراض اهمها: 

1- تيار ” الرأسمالية النظيفة” ويمثل دعوة الى القيام باصلاحات تتمكن من التحكم بالاعتداءات المتكررة على البيئة، وخير مثال عليها محاولات نائب الرئيس الامريكي السابق آل غور وحملته للدفاع عن البيئة. ومن اهم عيوب هذا التيار انه يصر على تجاهل حقيقة استحالة التعايش بين الرأسمالية وجريها وراء الارباح وبين البيئة. ومع ذلك يبقى هذا التيار مفيدا لجهة فرضه ضرائب بيئية شرط ان يتحملها الملوث لا المستهلك. 
2- تيار يرفض ” الرأسمالية والاشتراكية” على حد سواء لانه يعتبر ان الاخيرة ليست سوى الوجه الثاني لنفس العملة لانها انجرت باقتصادها الاوامري البيروقراطي الى تقليد النزعة الانتاجوية الغربية. ويبدو ان هذا التيار آخذ بالافول خصوصا بعد انهيار النماذج المزورة للاشتراكية في شرق اوربا. 
3- تيار يرفض ” اليمين واليسار” ويبدو انه قد ولد من رحم التيار الثاني او انه امتداد له. وهو يرفض التعاون مع الحركات العمالية معتبرا اياها محكومة بنزعة الانتاج. كما يدعو بعض مفكريه الى ابتعاد الماركسيين عن الايكولوجيا. واعتقد ان نوايا هذا الطرح تتضح اكثر بالنسبة لنا اذا ما عرفنا مثلا ان معظم احزاب الخضر في اوربا لا تمتلك موقفا معاديا للرأسمالية وتحولت في كثير من الحالات الى شريك ” بيئي- إصلاحي” وان حزب الخضر في كندا مثلا قد خرج من حزب المحافظين الكندي!. 
4- تيار ” الايكولوجيا الاصولية” وهو تيار سلفي يدعو الى العودة الى الاصول والى رفض التقدم التكنولوجي ككل. ويرفض فكرة مركزية الانسان في الكون، وان الانسان اثمن رأسمال، ويساوي بين جميع الكائنات الحية. ومثال على مواقفهم انهم يساوون بين البعوضة التي تسبب مرض الملاريا وبين الطفل المصاب بالمرض في حقهما في الحياة، وبين عصيات كوخ المسببة لمرض السل وبين الانسان المصاب به- عجبي!. 
5- تيار ” الايكولوجيا النسوية” وهو تيار يماثل بين الطبيعة والمرأة ويؤكد على ان الممارسات التي تطال الطبيعة، من خلال اشكال من الابتزاز الصامت، حيث يتم استغلالها بمواد ووسائل مستحدثة ومشرعنة، دون التفكير في المخاطر المترتبة مستقبلا، وكذلك النهب الملحوظ، داخل الغابات، البحار، الصحاري ..الخ، عبر اجراء التجارب العلمية، لا تنفصل عن تلك الممارسات التي تطال المرأة، فالضرب الموجه من الرجل اليها لم يتوقف، والاهانة والتعالي عليها لا يزالان موجودان، وظلت المرأة عرضة للتهميش والهجران او النبذ والتعدي هنا وهناك حتى ولو بدت محمية في ظل قوانين سماوية او وضعية. 
6- تيار ” الايكولوجيا الاشتراكية” ويمثله مجموعة من المفكرين غير المنسجمين سياسيا لكنهم يتقاسمون بعض المواقف. ومن بينهم جيمس اوكونور (امريكا)، خورخي ريشمان (اسبانيا)، فردريك اوتوولف (المانيا). وهم يشكلون تيارا فكريا ، عمليا، بيئيا يتبنى المكاسب الاساسية للماركسية – مع تخليصها من شوائبها الانتاجوية. وهم يرون ان منطق السوق والربح، وكذا منطق التسلط البيروقراطي لنماذج الاشتراكية القائمة، لا يتطابقان مع متطلبات حماية البيئة الطبيعية. وهم اذ ينتقدون الافكار السائدة في الحركة العمالية، يدركون ان العمال ومنظماتهم قوة اساسية في كل تغير جذري للنظام ومن اجل ارساء مجتمع جديد، اشتراكي وبيئي. ومثلب هذا التيار برأي هو انه ينظر الى سياسات الاشتراكية (المزورة) على انها نابعة اصلا من تقليد ماركسي، ويخلطون بذلك بين ستالين وليسنكو من جهة وبين ماركس من جهة اخرى. متغافلين عن ان فكرة الاشتراكية ذاتها هي انتاج قيم استعمالية، ومواد ضرورية لتلبية حاجات انسانية، وليس الهدف الاسمى للتقدم التكنولوجي برأي ماركس هو النمو اللامتناهي للمواد (انتاج من اجل الانتاج) بل تقليص يوم العمل وزيادة الوقت الحر للانسان. 

بالمقابل، علينا الاقرار بان الحركة العمالية، ماركسية كانت ام غير ماركسية، وكذا بعض الاحزاب الاشتراكية والشيوعية، ما تزال غير مدركة خطورة الازمة، ووصل الامر في بعض الحالات الى الدفاع عن نمط الانتاج التوسعي في بلدان النسخة الاشتراكية المزورة، بحجة انه قد جرى في ” إطار التأثير العام للمنافسة المفروضة على هذه الدول”[1] من قبل البلدان الرأسمالية، فيقول ان الرغبة في بناءالاشتراكية بشكل سريع – اقرأ القفز على المراحل- قد ادت الى تبني سياسة التصنيع السريع والشامل مستهلكة الموارد الطبيعية بصورة غير عقلانية بهدف اللحاق بالانماط الرأسمالية للانتاج والاستهلاك المادي. 

هنا لا بد من التنويه الى حقيقة التباين بين السياسة التي اتبعت بعد وفاة لينين وبين ما كان لينين يؤكد عليه قبل وفاته. فعند تقويمه لاوضاع البلاد بعد ثورة اكتوبر يقول لينين بانه لم تكن هناك اية شروط تسمح بـ ” تبني” الاشتراكية او بنائها في روسيا ” فالحجارة التي سنبني بها الاشتراكية لم يتم اعدادها بعد” [2]. وفي صياغة اخرى يقول ” … تنطوي عبارة الجمهورية الاشتراكية السوفيتية على تصميم السلطة السوفيتية على بلوغ مرحلة الانتقال الى الاشتراكية، لا على الاعتراف بان النظام الاقتصادي الجديد هو نظام اشتراكي” [3]. وفي موضع آخر نراه يحذر قائلا ” أليس واضحا اننا، من وجهة نظر المادية، ومن وجهة النظر الاقتصادية والانتاجية ما زلنا بعيدين حتى عن –عتبة- الاشتراكية” [4] ساخرا من اولئك الداعين الى ان تصبح البلاد اشتراكية على الفور وبجرة قلم. 

لنعد الى السؤال الذي طرحناه بداية، ما العمل؟ ولللاجابة لابد اولا من تثبيت نقطتين جوهرتين: 
1- ان نمط الانتاج والاستهلاك الراهن في البلدان الرأسمالية المتقدمة، القائم على منطق تراكم لا محدود لرأسمال والارباح السلع، سيقودنا جميعا الى كارثة بيئية شاملة. لتوضيح الصورة نقول انه لو جرى تعميم معدل استهلاك الطاقة في امريكا على جميع بلدان العالم لنضب المخزون العالمي للطاقة في غضون 19 يوما فقط. 
2- ان استمرار ” التقدم الرأسمالي” والتوسع القائم على اقتصاد السوق يهدد بقاءنا كبشر على سطح الكوكب، وبالتالي فان حماية البيئة هي استحقاق انساني. 

على هذا الاساس تبدو الماركسية مؤهلة اكثر من غيرها وحبلى بالكثير من الامكانات لمواجهة هذه الازمة / الكارثة لانها تستند الى نظرة مادية الى المجتمع تشدد على شروط الانتاج المادية للمجتمع التي تعمل على تحديد الامكانات البشرية وحرية الانسان، والى فهم حقيقي – على الاقل عند ماركس وانجلز- للعلاقة الضرورية بين هذه الشروط المادية وبين التاربخ الطبيعي، اي التصور المادي عن الطبيعة. وبالتالي فان الماركسية تشير بجلاء الى الحاجة الى مادية ايكولوجية، او الى تصور ديالكتيكي عن التاريخ الطبيعي. 

وفي هذا السياق تتأتى ضرورة التفحص العميق لتطور الفكر الماركسي في مجال الايكولوجيا لانه سيوفر لنا الاساس لنظرة نقدية جديدة لديالكتيك الطبيعة. ولكن لا بد من التنوية الى ان هذا التفحص لا يعني جعل ماركس ” اخضرا” بمعنى لوي عنق الماركسية لنجعلها تبدو منسجمة مع مودة العصر، بل انه يعني تسليط الاضواء على مثالب النظرية الخضراء نفسها وعلى فشلها في الجمع بين المادية والديالكتيك. وبكلمة اخرى فان هدف التفحص، الذي ينبغي القيام به، هوتجاوز المثالية والروحانية والثنوية في نظرية الخضر عبر توفير نقد اعمق لموضوعة اغتراب الانسان عن الطبيعة وهو ما كان يشكل الهاجس الارأس لماركس وربما حتى لدارون. 

ان ملاحظات ماركس حول موضوعة الايكولوجيا لم تكن ومضات عابرة لعبقري، بل كانت ملاحظات مستمدة من انشغال ودراسة عميقة بالثورة العلمية للقرن السابع عشر وللاوضاع البيئية في القرن التاسع عشر، اعتمادا على فهم فلسفي عميق للمفهوم المادي عن الطبيعة. فماركس ومنذ سنواته المبكرة كما في مخطوطاته الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 حلل الاغتراب الانساني عن الطبيعة بشكل ايكولوجي لا يقبل الشك. وقد تعزز هذا التحليل باهتمامه المتزايد بالجوهر الانساني وبالعلاقة مع التربة، ومشكلة الزراعة الراسمالية، وعلاقة المدينة بالريف. ولم تخب هذه الموضوعات في فكر ماركس في سنوات النضوج بل ارتدت اهمية اكبر خصوصا في كتاباته الاخيرة في علم الاعراق البشرية. 

[1] انظر الدكتور عصام الزعيم، المسألة البيئية ” مقاربة دولية نقدية”، مجلة النهج، العدد 35-36 ، 1991. 
[2] لينين، الاعمال الكاملة، المجلد 27، ص 148. 
[3] المصدر السابق، ص 335. 
[4] المصدر السابق، ص 342.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق