استهلال:
"أن يتفهم
المرء نفسه هو أن يقوم بذلك أمام النص وأن يتقبل منه شروط الذات المغايرة عن الأنا
الذي يأتي إلى القراءة"1
إذا كانت الطريقة الجدلية هي
السياج الذي احتمى به المنطق لكي يصير العمود الفقري للانطولوجيا حسب موريس
مرلوبونتي2، فإن الهرمينوطيقا يمكن أن تمثل انحرافا جديا عن المنطق وانقلابا عليه
وبداية مختلفة للميتافيزيقا تعجز القراءة التاريخية العادية للنصوص عن التفطن إليها
وتقدير مآلاتها.
ربما أهم مشكل يعترض الهرمينوطيقا
حسب بول ريكور هو الذي يتعلق بوجود منهج يمكن تطبيقه بصورة كونية على جميع اللغات
وفي كل الحقول ووجاهة تأويل النصوص من خلال عمليات أساسية في الفهم والتفسير
والحوار والمحادثة والتراسل والتلقي والاستقبال والتفاعل والتواصل والمصالحة
والتآلف.
يوجد تأويل في أبسط العمليات
اللغوية التي يقوم بها الإنسان عندما يستعمل لسانه ويتكلم مع غيره حسب ريكور
ويحتاج الكائن البشري دائما إلى الشرح والتوضيح لمقصده لكي يتفاهم مع غيره3. فكل
موجود هو كائن هرمينوطيقي دون أن يدري وكل إنسان هو حيوان مؤول يحوز على ملكة
الفهم وتأويل التراث. من هذا المنطلق يستمد العمل الهرمينوطيقي مشروعيته من تعدد
دلالات الكلمة الواحدة polysémie عندما
يتم استعمالها خارج مرجعها الأول وضمن سياقات مختلفة ويقع ترحيلها إلى أنساق
معرفية جديدة ومن امتلاك شيء معين أكثر من اسم يشير إليه ويعبر عن وجوده في العالم
وأشكال استخدامه وحضوره.
بهذا المعنى لا شيء أكثر يومية من
الهرمينوطيقا ولا شيء أكثر بداهة من تأثير السياق في دلالة الكلمات التي تتنزل
ضمنه ولكن المطلوب هو التعرف على مقاصد المؤلف وانتظارات المتلقي بتفسير رموز الحياة
اليومية وفك ألغاز الخطاب الذي قيل به الراهن والانتقال من المعقد إلى الواضح. لكن
ما الغرض من التأويل الفلسفي؟ هل يؤدي التأليف التفهمي بين التفسير والتأويل إلى
قيام الفلسفة الهرمينوطيقية؟
ما يتم المراهنة عليه من خلال
تطوير العقل الهرمينوطيقي ليس الاكتفاء بتأويل الأطروحات التي تنتجها الثقافة
الرمزية عن العالم وإنما العزم على تغييره من خلال التغيير الجذري للأطر
الاجتماعية للمعرفة والبنى الرمزية للفعل من خلال حسن استثمار المخيال والانفتاح
على السرديات الكبرى والقصص الديني.
1- الهرمينوطيقيا
بين المعرفة العلمية والتأسيس الفلسفي:
"لهذا
السبب، قد تتطلب الهرمينوطيقا شغلا، ومن ثم أيضًا قواعد، أو طريقة، إذا كان ذلك
صحيحًا في تفسير ما قيل، وعندما نجد أنفسنا أمام النص، من الواضح أن المؤلف قد
انسحب، ولاحظ الرسالة، بل يجب أن يتم عملاً محددًا، فالمتحدث لم يعد موجودًا، وأصبح
السياق صعبًا في تحديده، ويجب علينا في كثير من الأحيان الاعتماد على افتراضات
بسيطة."4
لكن لماذا أبرم بول ريكور صلة
وثيقة ومنزلة مفضلة بين الشغل الهرمينوطيقي والمسألة اللّغوية؟
لقد حرص ريكور على توسيع دائرة
الحقل الهرمينوطيقي لكي تتخطى عالم الرموز والعلامات والاشارات وتطأ أرض القصص
والسرديات والمرويات التي تتضمن الخيال والوهم والمجاز والاستعارة والكناية
والأمثال والذكريات وآثار التاريخ والوثائق المكتوبة والمنقوشة والأقوال.
هكذا تبدي الهرمينوطيقا انفتاحا
ميتافيزيقيا غير معهود لكي تتعامل مع جميع موضوعات العالم بوصفها جملة من الرموز
تحتاج الى تأويل ولكي تحول الظواهر الطبيعية الى نصوص للقراءة.
لقد استعان بول ريكور بجهود
شلايرماخر وديلتاي في بناء علم تاريخي تكون مهمته تثمين النصوص والآثار التي يعبر
من خلالها الروح عن نفسه وفق الدقة والموضوعية الممكنتين ويسمح هذا العلم للفرد
ببلوغ التاريخ الكلي وامكانية تملك العوالم الضائعة بواسطة فهم آثارها.
لكن ريكور يلاحظ أهمية استثمار
هيدجر لهذا الانفتاح في الهرمينوطيقا من أجل التوقف عن التعامل معها بوصفها المنهج
الملائم لقراءة الماضي والاعتماد عليها كعلامة أنطولوجية تؤشر على الكائن لكي يفهم
هذا الانفتاح على العالم من حيث هو تعبير عن نمط وجود للكائن المتفهم.
هكذا تتلعق الهرمينوطيقا ببنية
الوجود عينها وتتخلص من البعد الابستيمولوجي الذي يحمله المنهج المعرفي وتحوز على
ثقل الأنطولوجي يرتبط بالكائن الذي يوجد عبر فهمه لوجوده.
بيد أن بول ريكور يرفض أن يتعامل
مع البعد الابستيمولوجي باعتباره العد الثانوي ويقر على خلاف ذلك بأهمية المرور به
واحداث جدلية وتكامل مع البعد الأنطولوجي قصد اتخاذ مسافة نقدية من الموضوع
المدروس من ناحية اولى والاعتراف بانتماء الذات المؤولة الى الصيرورة التاريخية
التي يتعذر عليها الافلات منها والبحث عن شروط اعادة تملكها تاويليا من جهة ثانية.
بعد ذلك يدرس ريكور إمكانية جعل
التنائي5 distanciation بوصفه
تباعد بين الذات والموضوع وظيفة أساسية في الهرمينوطيقا ويرفض التراوح بين المنهج
الوضعاني في اتخاذ المسافة النقدية من الموضوع المدروس والموقف الأنطولوجي في
الانتماء ويعمل على تجاوزهما معا وتجديل العلاقة بينهما.
الآية على ذلك أن إمكانية فهم
الآخر من خلال النص باعتباره الأثر الذي يتركه يتحقق بالانغراس في الفعل النظير له
وتشكيل المشروع الإنساني الذي يتضمن إمكانية القدرة الأنطولوجية والمنهج المعرفي
للحقيقة.
كما تحمل الهرمينوطيقا علامة على
التعالي الفكري المتجذر في حقل الذات وتعمل على تحقيق الانصهار بين النظام المنهجي
المعرفي والنظام الأنطولوجي على الرغم من عدم تطابقهما من الناحية القبلية6.
يؤدي التنائي من حيث هو اتخاذ
مسافة نقدية وظيفة ايجابية وإنتاجية في الهرمينوطيقا ولكن الأسس التي تقوم عليها
الإمكانية الهرمينوطيقية هي إشكالية الكلام من حيث هو خطاب ومسألة الخطاب من حيث
هو أثر مهيكل والانتقال من القول إلى الكتابة والتعامل مع الخطاب باعتباره فتح
نافذة على العالم والمراهنة على الخطاب كوسيط في فهم الذات لذاتها وذلك حينما تضع
نفسها في مواجهة العالم بواسطة الخطاب وتتخذ مسافة نقدية منه وتحاول إعادة تملكه
وتتحول إلى موجدة من خلال تشكيله وإعادة تشكيله.
من الناحية المنهجية يقترب كل من
التنائي والتملك من طرف المتلقي لكي يتحول الفهم بواسطة اللغة إلى تأويل للنص عبر
قراءة الذات من خلال الالتقاء بالغير وتلقي قضايا العالم وتدبيره من أجل تعمير
الوجود.
إن اتخاذ مسافة نقدية من طرف
الذات تجاه ذاتها عن طريق التنائي يستهدف التخلص من أوهام التعالي التي يصاب بها
الأنا وترنو إلى إحداث انسيابية في الذات بغية تفعيل الأرضنة والمحايثة والتخلي عن
المفهوم الابستيمولوجي للتفسير والتعويل على الرؤية الأنطولوجية للتأويل التي تجعل
من الهرمينوطيقا ثقافة وتكوين للذات ورؤية للعالم وتتناول الهوية في صلاتها مع
السرد.
أن يعرف المرء ذاته يقتضي أن
يشتغل على تأويل نفسه من خلال نظام مزدوج عبر السير في اتجاهين: اتجاه القصص
الأدبي واتجاه السرد التاريخي واستعمالهما كأدوات لهرمينوطيقا الذات التي تعمل على
استثمار خلع نيتشه لكرامة الذات وتفكيكه الأنا المبجل لكي تتخلى عن اليقين المطلق
لدى الكوجيتو وادعائه معرفة ذاته بصورة بديهية ومباشرة وترفض الادعاء النيتشوي
باستحالة خروج الأنا من ذاته وعجزه عن مبارحة بيته الداخلي وانشغاله بتلبية غرائزه
ولذاته وتحركه ضمن الدائرة الأناوحدية.
هكذا تنخرط هرمينوطيقا الذات في
لعبة الوعي الأخلاقي بين ضمان استمرارية الذات في الفعل والشعور التراجيدي بالعذاب
والألم والمعاناة وتقوم بالتجديل بين شغل التأويل وصحوة الإقرار وتصديق الشهادة.
عندما تختار الذات المسار
الموضوعي لها وتشرع في البناء عن طريق التطعيم السردي تكون قد حصنت نفسها من
الهويات الزائفة التي تظل تدور حول المطابقة وتفادى هرمينوطيقا الارتياب وتعثر في
وساطة الغيرية الشكل الأصيل لاستمرار الماهية في مواجهة العدم وانجاز الكينونة.
بهذا المعنى تلتصق الهرمينوطيقا بالمقاربة التي تتقصى معرفة الذات عينها عبر إحداث
تعارض بين الهوية التطابقية للشيء والإنية الذاتية التي تظل وفية لوعودها وتلتزم
بفعلها. فماهي الثورة التي فجرتها الهرمينوطيقا؟
2- التكوثر
الهرمينوطيقي وتعدد التأويلات:
" أن نفهم
يعني أن نلتزم بقضية معنى، التي هي دائما قضية عالم حياة، طريقة للفعل في
العالم"7
تتمسك الهرمينوطيقا بمطلب
الموضوعية وتتخذ مسافة نقدية من كل الأوهام الذاتية وتجري تمارين في التفكير
النقدي بغية التخلص من الانبتات ولكن التأويل الذي تقوم به يغرق في المنظور
الأخلاقي ولا تصير الذات ما تريد أن تصير دون أن تقدر على معرفة ما ينقصها. بعد
ذلك يأتي الدور على رمزية الهرمينوطيقا الدينية لكي تشتغل على تفسير الكتاب المقدس
باستثمار الأبعاد السردية الذي كُتِبَت بِهِا وذلك بالتوجه نحو الانتظارات
الأخروية والسعي الى تفعيل تاريخ الخلاص دون الوقوع في التيولوجيا8.
من المعلوم أن البنية السردية
للكتاب المقدس مختلطة بالعناصر التيولوجية ولكن المهمة الرئيسية للهرمينوطيقا
تتمثل في تنقية تلك الرواسب وتطهير اللغة الدينية وإبراز الدلالات الإنسية
والأبعاد المدنية والقيم الدنيوية التي تتضمنها والتقليل من الألغاز الغريبة
والأسرار الغامضة وتجلية النص وتوضيح المقصود وإنارة الطريق أمام المتلقي لفهم
المراد والتعرف على مطالب المرسل منه.
يتمثل التأويل عند ريكور في
الاستماع إلى الحد الأقصى من الأصوات الصامتة المنبعثة من الكتاب وتكاد تصبح
الأصوات المنبعثة من كتب أخرى تعتقد في امكانية اللقاء بالصوت الإلهي المرسل من
الأعالي.
علاوة على ذلك يظهر التحليل
الهرمينوطيقي الصورة التي يقدمها الكتاب المقدس عن الإلهي دون تضخيم أو اختزال
ويشتغل على خلع الهالة وإزالة الأسطرة ويحرص على نقد الأوهام وسحب فرضية العوالم
الماورائية ويشتغل على تقريب الألوهية من الناس وتوفير فرص التقارب واللقاء بها.
من جهة مقابلة تنهض الهرمينوطيقا بنقد الكتاب المقدس من الخارج برفض المفارقة
والتعالي والماورائيات وتقوم بإلغاء الخارج بصفة كلية وتبقي على التجربة الوجدانية
المحايثة وتجري عملية النقد من الداخل وذلك من خلال التنائي وعبر اتخاذ المسافة
النقدية من الكتاب المقدس والتعاطي معه بوصفه فضاء لغوي مكتوب ومجرد نص بشري مليء
بالعلامات والرموز والاستعارات يتطلب تأويلا للقصص وإنتاجا للمعنى ويتيح إمكانية
فهم الذات على ضوء تجارب الحياة التي تحكيها عن نفسها ومن خلال ما يحكيها الآخرون
عنها.
غير أن الهرمينوطيقا الدينية تضع
نفسها في خدمة الإيمان مهما ادعت الأصالة والتطهير والأولية وتظل في حاجة ماسة إلى
الارتياب والتظنن لكي تتخلص من أوهام التمركز حول الحقيقة والاعتقاد في معرفة
المطلق وتقوم بعملية توسيع وتشميل بغية تفادي هذه الاعتراضات والسير نحو التدقيق
والموضوعية.
ترتقي الهرمينوطيقا الدينية إلى
درجة التأمل الفلسفي وتحوز على منزلة أنطولوجية عندما تحاول التقريب بين قولة
نيتشه التي تقر بأن الله قد مات مع مقطع مذكور في التوراة يفيد بأن أكون هذا الذي
يكون.
لقد منح التأويل لله ذاتا متعالية
وصفات وجعله في علاقة محبة مع ذاته وترك الذات البشرية تائهة بين الفناء والبقاء
ورهينة العثور على الرابطة التي تشدها إلى الوجود الإلهي وتتمثل في المحبة بدل
الكره.
لقد وصل بول ريكور بأبحاثه
المتعمقة إلى مستوى من التجذير الأنطولوجي للهرمينوطيقا الفلسفية بحيث أصبحت الحجة
الأنطولوجية على وجود الله الدعامة الهرمينوطيقية على ضرورة وجود الكائن التام الى
جوار الإنسان لكي يرى نفسه فيه ويدرك ذاته من خلال كلامه في دائرة هرمينوطيقية
خصبة بالمعنى9.
لكن ماهو المستقر الأساسي الذي
أرست فيه عملية بناء الاختصاص التأويلي ضمن الأفق الهرمينوطيقي؟
يعرف بول ريكور الهرمينوطيقا
بوصفها "فن تأويل النصوص"10 ويري أن المسافة الجغرافية والتاريخية
والثقافية التي تفصل النص عن القارئ تمثل وضعية سوء فهم لا يمكن تداركها إلا
القراءة المتعددة والتأويل المتكوثر11. بناء على ذلك يمثل التأويل ثيمة مركزية في
الهرمينوطيقا ويكشف عن نظرية في كثرة المعنى وينطلق من مصطلح النص باعتباره أثرا
مكتوبا ويدرس العلاقة بين الكتابة والقراءة. في هذا الصدد يتساءل ريكور: هذا التركيز
على المكتوب هل يخفي مشكلا في الفهم عند المحادثة والتبادل الشفوي في وتجربة
الكلام؟ ألا تطرأ أشكال من الفهم المسبق وعدم الفهم في يزعم المتحاورين أنه حوار؟
كيف يؤسس ريكور هرمينوطيقا المحادثة عبر استثمار لعبة السؤال والجواب؟
ربما يسمح حضور المتحاورين جنبا
إلى جنب للعبة السؤال والجواب بأن تعدل تدريجيا الفهم المشترك ولكن هذا الخيار
يفضي إلى هرمينوطيقا مسبقة بما أن التبادل الشفوي للكلام يقع في مصاعب النسيان ولا
يمكن تذليلها إلا عن طريق الكتابة وخاصة حينما لا يكون معنى الخطاب الملقى مطابقا
لمقصد المؤلف، أي أن ما يريد المؤلف قوله من ناحية وما يعنيه النص من ناحية أخرى
يمثلان مقصدين متمايزين. لقد فقد النص حسب ريكور المدافع الأول عنه الذي كان يمثل
الأب الذي انحدر منه وهو المؤلف أو الكاتب وبقي يواجه مغامرة التلقي من القارئ
وهذا يذكرنا بأرفيلن Orphelin في
محاورة فادرPhédre لأفلاطون. ألم يكن رأي
دلتاي وجيها لما أبدى تحفظات حول لفظ التأويل ودعا إلى فهم الآثار والخطب المثبتة
بالكتابة؟ لماذا جعل ريكور النص محور الاهتمام الأول في التأويل؟ ولمن الأولوية؟
هل للمقروء أم المكتوب؟
تقوم إستراتيجية المؤول حسب دنيال
دانات على تثمين الحس المشترك واعتبار ما يدور الحياة اليومية من أحداث وتجارب
وإبداعات والانطلاق من نقطة ثابتة تكون فيها الأقدام البشرية واقفة بشكل جيد في
الكون. كما تعول الإستراتيجية القصدية على الاعتقادات الحقيقية وتوفر للتأويل
عوامل نجاحه وذلك بالتمييز بين البني الحقيقية والوقائع العميقة والأسئلة الفارغة
وإعادة الاعتبار للنزعة الآداتية وإعطاء معنى لكل ما يقوم به البشر من أفعال
والانتباه إلى الأخطاء التي تحدث عند السير البطيء والتعويل على التفكير السريع
بالذهاب إلى ماوراء الاعتقاد وتطوير أساليب التمثل الذهني وحسن استثمار الحدوسات
والتجربة اللغوية والقدرة على الكلام والتلفظ والتحكم في تقنيات إنتاج الخطاب
وإجراء امتحان المراقبة المستمرة للعقل عن طريق المقارنة والتعارض والبحث في
إمكانيات القصدية على تفادي الخطأ باعتماد أنساق قصدية وعرفانية وإجادة فن تأويل
العلامات والنظريات والجينات والقيام بالتفريق بين المنظر والمؤول12.
يستشكل بول ريكور بطريقة بديعة
مفهوم التأويل13 ويتحرى من وضعيته المنهجية بالمقارنة مع الهرمينوطيقا وضمن الأفق
التأويلي للعقل الفلسفي وفي سياق انتصار البراديغم اللغوي متسائلا عن معنى التأويل
وموضوعه وطرق وقواعد اشتغاله وعلاقته بالرمز والمعنى. ولما كان الرمز ملتبسا فإن
التأويل في حد ذاته يمثل مشكلا فلسفيا ويظهر ذلك على مستوى الاستعمال وبناء على
يستنجد ريكور بالتقاليد الفلسفية والدينية ويميز بين مفهوم مقتضب جدا ظهر عند
أرسطو في المقالة الثانية من الأرغانون تحت اسم Peri
Hermeneias ومفهوم شاسع جدا تشكل في التفسير التوراتيexegese
biblique وهاجر إلى مجالات وحقول مجاورة له مثل الأساطير
والأحلام.
لقد كان مقصده الأسنى في هذا
المسلكية التأصيلية إجراء إصلاحات وتهذيب الحقول الدلالية للمفهوم حتى يتمكن من
بلورة حد أوسط للهرمينوطيقا. في الواقع، لا يعرف بول ريكور الرمز بالمعنى الذي
قصده أرنست كاسرر في فلسفته الأنثربولوجية لارتهانه للتفسيرات الوضعانية العلمية
ولا يعول على المقاربة الأرسطية وذلك لبقائها حبيسة التعريف اللغوي ولحسم القول
المنطقي البرهاني المعركة مع أنواع الخطاب الأخرى وتفوقه على الخطابة والشعرية
والسفسطة والجدل والمغالطات ولكنه يبحث في مستويات الدلالة والإحالة والمرجعية
والألفاظ والأشياء والأفعال والمعان الظاهرية والباطنية والتلفظ والخطاب. لقد كان
ديدنه معرفة العناصر التكوينية التي يمنحها مفهوم التأويل في سبيل قيام هرمينوطيقا
فلسفية كونية.
اللافت للنظر أن مشروع قراءة
التحليل النفسي عند فرويد من طرف ريكور ليس مجرد محاول فهم للنصوص الفرودية عبر
اقتراح تأويل أحادي الجانب ومن نفس المستوى وإنما هو إحداث سلسة من القطائع حيث تمثل
كل قراءة جديدة لا فقط مجرد تكملة للقراءة السابقة والاحتفاظ بالمنجز بل تقوم
بتصحيحها وتحدث مسافة نقدية فاصلة عنها وتسعي إلى تقديم قراءة عميقة ومتكاملة
وملمة بمختلف جوانب النصوص القوية والضعيفة والجلية والخفية14.
لكن كيف ساعدت محبة النص التي
تشترطها التجربة الهرمينوطيقية على تفعيل التواصل الأدبي؟
لقد كرست الوضعية والنزعة العلمية
والتمركز الفلسفي على نفسه وادعائه وجود فلسفة محضة حالة الانفصال والطلاق بين
الأدب والفلسفة وتم ترسيخ هذه الوضعية وتحويلها إلى تقليد معمول به ولا يمكن
المساس به ومراجعته. غير أن ريكور أعاد النظر في هذه العلاقة أسوة بهيدجر بعد المنعطف
وغادامير. ولكن يجوز اطلاق تسمية فلاسفة الأدب والأدباء الفلاسفة؟ وماذا يأخذ
بالضبط الفلاسفة من الأدب؟ وماهي المناحي الأدبية في القول الفلسفي؟ وأين توجد
المناحي الفلسفية في القول الأدبي؟ وهل يهتم الفلاسفة بماهو فلسفي عند الأدباء
ويهتم الأدباء بماهو أدبي عند الفلاسفة؟ وهل يجوز أن ينظر الفلاسفة في الأبعاد
الأدبية في الأدب ويخوض الأدباء في حوار مع الماهيات في النصوص الفلسفية ذاتها؟
من المعلوم أن بول ريكور احتل
المقام الأول من بين الفلاسفة الذين أحبوا النصوص الأدبية ولاقت مقارباته ترحيبا
كبيرا لدى علماء اللغة ونقاد الأدب والفنانين والمؤرخين وعلماء الاجتماع وعلماء
النفس والأنثربولوجيين نجد. صحيح أن مارتن هيدجر في منعطفه الثاني قد أوجد مكانا
بارزا للدراسات الأدبية وبالخصوص الدراسات الشعرية لكن قام بذلك لكي يغادر الأرض
التي يقف عليه الأديب نحو فنومينولوجيا الوجود وعالم الأدب. في حين أن ريكور يعتبر
الفيلسوف الوحيد الذي اختلف مع السمات العامة للوسط الفكري الذي عاصره وأحدث
"تأدبه" ضجة كبيرة ونقاشا حادا مع البنيويين في علم النفس وفي الماركسية
وفي الأنثربولوجيا.
لقد حاول ريكور ألا يقتصر مجهوده
على بناء مقاربة بنيوية للأدب وأن يتعدى نحو فلسفة رمزية ما بعد بنيوية وأن يرد
على أطروحة موت الإنسان التي تداولها كثيرا الموقف الموضوعاني وتمسك بوجاهة
التفكير الذاتي في الأدب وتنمية الفاعلية التواصلية واعتمد على علاماتية النص
ودلالية الفعل وبحث عن المصالحة بين البنيوية والهرمينوطيقا ساعيا إلى استخلاص بعض
الرهانات النافعة في السياسة والأخلاق.
لقد عاد ريكور إلى الأدب وأرجع
الأدباء إلى حظيرة الفلسفة وأسند للأدب منزلة هامة في تجربة التفلسف وأعاد تشييد
علاقات مستقرة مع أنماط الرواية والحكاية والسرد والنقد الأدبي والشعرية والخطابة
وانتابه شغف كبير بالقراءة وألمت به محبة المطالعة واستيقظ فيه هم تدبر النصوص
وبعث الحياة في الكتب. لقد سعى ريكور جاهدا نحو بناء أنثربولوجيا فلسفية تفكر في
الكلام وتطور نظرية في النص غير بعيدة عن نظرية التاريخ ونظرية في الفعل15.
بناء على ذلك أعطى ريكور أولوية
للكلام بالمقارنة مع الفردية والتاريخ على المستويين النظري والنقدي محاولا تفادي
الوقوع في فخاخ أنطولوجيا الجوهر وباحثا عن إسمية وبعبارة دقيقة عن هرمينوطيقا
متفقة مع تصور كل من بيرس وبنيفنيست للكلام باعتباره مؤولا للنشاط البشري وعمودا
فقريا للأنثربولوجيا. غير أن ريكور وجه قراءة نقدية لأعمال بنيفنيست بالاعتماد على
تداولية أوستين وسورل وحرص على ايقاف عملية الخلط الفظيعة التي وقعت فيها الألسنية
وفلسفة الذاتية في تقليدها الديكارتي بين الضمير المتكلم الذي يشير إلى كل فرد je والأنا المتكلم الذي يشير إلى شخص بعينهMoi
التي قطعت الفلسفة عن نظرية الكلام وتفادي إثارة مشاكل الإحالة
والتعيين والإشارة والمرجع والعمل على التمييز بين الاسم الخاص بالمتكلم والهوية
النفسية والانفتاح على الضمائر الأخرى في الحوار وهي الأنت المخاطب والهُو الضمير
الغائب الذي يشير إلى الغير وقام بالتمييز الحاسم بين الهوية العينيةidem
والهوية الذاتيةipse.
يكشف ريكور عن كون الفرد المتكلم
عند ديكارت أو عند البراغماتيين الذي يمنح موضوع الكلام هو ذات غير أدبية ويعزو
ذلك إلى الخاصية المتعالية ومنحه الأولوية للذاتية بالمقارنة مع الكلام ولذلك
يتساءل عن دلالة إرادة القول الإنساني ويربطها بالإشارات اللغوية للشخص التجريبي
مثل التمثيل والتعبير والتلفظ. لقد وضع بنفنيست الأنا في موقع متعال عندما يقابل
الأنت في تجربة البيذاتية ولكن إذا كان الأنت هو أنا افتراضي فإن الأنا لا ينظر
إلى نفسه باعتباره أنت افتراضيا وبالتالي ظلت نظرية الذات والبيذاتية تفكر فوق
أرضية منطق الكلية وتتصور الإنسانية بوصفها مجتمع من الأشخاص وتبرر الشمولية
السياسية. لقد بقيت الذات المتكلمة حبيسة مفهوم الفرد التابع للتقليد الإنسانوي
والذي حاولت الشخصانية نقده بإدخال مفهوم الغيرية إلى تجربة الشخص وانفتاحه من
خلال اللغة على الغير ولكنها بقيت هي الأخرى بقيت تتحرك ضمن إطار تجربة الشخص
الثاني وتناولت وضع الأنا اللغوي ضمن علاقاته مع النحن والأنت.
يمكن هاهنا الاستنجاد بتجربة
الشخص الثالث ضمن عملية ربط بين نظرية التفريد والفردانية التي تضع الفرد المتعالي
على ذمة المحاور وفي إطار خدمة الحوار بحيث لم يعد المخاطب موضوع كلام منفعل بل
ذات متكلمة وفاعلة. لكن الدور الانفعالي للأنا والأنت هو خيالي بما أن فاعلية
الكلام تحول شخصي الكلام أي الأنا والأنت إلى شخص ثالث أو إلى لاشخص. لقد كان
بنفنيست قريبا جدا من بول ريكور الذي اقترح فتح أسماء الضمائر وإضافة il إليها واعتبارها ترمز إلى الشخص الثالث إلى
جانب الأنا والأنت. لكن ريكور اصطدم بصعوبة تعيين الشخص الثالث في خطاب بوصفه
واحدا من الذين يتحدثون عن أنفسهم باعتبارهم ضمير متكلم وشخص أول. تطرح مشكلة
التعيين الذاتي على الصعيد الأنطولوجي والنفسي وتتعلق بالانتقال من الحديث عن
الشخص الأول إلى الشخص الثالث ومن الوعي إلى الحدث الذهني.
إن الشخص الثالث هو فرد حي قادر
على التعيين الذاتي والخروج من التلفظ والتواجد ضمن نظام الإحالة والالتقاء بالأدب
ومعايشة القصة عن طريق القراءة ومحاورة شخصياتها والمشاركة في إعادة كتابتها. هكذا
ينبغي عدم الوقوع في الخلط بين التمثيل والوظيفية عند الشخص الثالث والتركيز على
وظيفة الكلام حينما يعبر عن الحركة داخل الخطاب ويتضمن صلة بالواقع ويؤسس
البيذاتية ولا يتحدث فقط عن سيرة ذاتية. ليس من المستغرب إذن أن يكون بول ريكور
الفيلسوف المحبذ لدى الأدباء السرديين الذين جعلوا من المتلفظ والتماسك السردي
الحدود التي يتوقف عندها الأدب. وربما المشكل لا يطرح بإعادة طرح هذه المسائل على
القصيدة وإنما في التعويل على الشعر والسرد والأدب واللغة في عملية بناء مسكن
الكينونة.
في الأثناء ينطلق ريكور من مفهوم
الدازاين عند هيدجر قاصدا الانفتاح على الحدث الشخصي ولكن طرح سؤال من؟ معوضا به
سؤال الجوهر ما؟ قد لا يكفي للذهاب إلى مناطق أبعد من التي ذهبت إليها التداولية
وذلك لأن هذه الطريقة تمحو اللعبة الحوارية بين الأنا والأنت بل وتخرجهما كذلك من
بيشخصية الخطاب. كما أن النظر إلى الذات من زاوية نفسها soi يؤشر
على استعادة التصور الميتافيزيقي للهوية ويحيل إلى الذات المتعالية التي تشتغل وفق
النمط التفكيري وتمحو بالتالي كل شكل من أشكال التاريخية والتذويت.
لهذا السبب يستخدم ريكور صيغة
الانبناء للمجهولse للتعبير عن الأفعال والشخصيات
والضمائر واضعا وجهة النظر الفلسفية خارج الخطاب بطريقة جذرية وراسما خارجية
للّوغوس تعبر عنها كتابة خاصة للفكر تستمد منطقها في التعبير من الكلام المتداول
وضاربا على عرض الحائط بنظام الخطاب المكرور.
لقد حرص ريكور على تنمية النفس soi ضمن دائرة مابعد اللغة من
أجل تفعيل مسارات التذويت والتفريد بالاعتماد على تفكير في الكلام يجعل من قراءة
النص وتأويله نوعا من العناية بالذات وتأويلها ومعرفتها. والحق أن تأويل النص
يتعمق مع تأويل الذات لذاتها وأن فهم مختلف يتشكل حينما تبدأ الذات بفهم النص
وترتقي الى مستوى فهم أعمق وتبدو العملية مترابطة بين مسار معرفة الذات ومسار
الاطلاع على النص. في الواقع هناك ترابط عند ريكور بين التطهيرcatharsis
والتليين purgation وبين
مسارات التذويت عند القارئ وتجربة ثبت الهويةidentification
عن طريق الانخراط في تجربة الغيرية عبر جدلية الغرابة والتملك.
بناء على ذلك تمثل القراءة تجربة تأويل وتتميز بكونها حركة جاذبة إلى المركز وغير
متطابقة مع فكرة المغامرة والانزياح سواء عن الذات أو عن المعنى ولو كان الأمر
متعلقا بثبت الهوية عند بطل القصة. لكن ماهي فضائل النص؟ وهل هناك وظائف إيتيقية
من تجربة المطالعة وفعل القراءة؟
لقد احتاج ريكور لكي يضع النفس في
منزلة متعالية في الكلام الى جعل الشخصية الثالثة مكونا للخطاب ويؤدي وظيفة مضاعفة
في مجال النحو وفي نظرية التواصل باعتباره الوسيط الذي يخبر الأنا عن الأنت
وبعبارة أخرى يتكلم الأنا الضمير الحاضر إلى الأنت المخاطب عن الهُو الغائب الذي
يمثل كل مغاير. على هذا الأساس يرفع هذا التصور الحركي للكلام النموذج التواصلي
على النموذج المنطقي ويركز على الوظيفة المرجعية التي تسند المحمولات في الجملة
المعلنة التي تقصد قول الحقيقي وتشير إلى الواقعي.
والحق أن المعنى المثالي للكلام
الحي يتوقف على الإحالة الواقعية ويرتبط بالكلام على... والكلام حول... ولهذا يحتل
الكلام الشفوي المكانة الأولى وذلك لقدرته على النفاذ إلى كلام العالم من خلال
الذات المتكلمة. على هذا النحو تتجلى فاعلية الكلام في الإظهار والتبيين والتوضيح
بالنسبة إلى العالم من خلال الوظيفة الرمزية اللغة وعملية التسمية ومحاكاة الخطاب
للكلام الحي والنظر إلى الخطاب المكتوب بوصفه نظرية في النص. لقد نادى بول ريكور
بموت المؤلف للمرة الثانية لكي يبقى أثره محل رهان ولكي يستمر الأثر بوصفه قصد قول
وذلك عندما يتحول من مستوى الكلام الشفوي إلى مستوى النص المكتوب أي الخطاب.
بناء على ذلك تأخذ فنومينولجيا
الخطاب حذرها في الوقوع القصدية النفسية ودون إدخال المؤلف من النافذة وتضع مكانها
أنطولوجيا النص لما تدفع السرد إلى الحديث عن شيء النص ولا عن الذي يتحدث وراءه.
لقد حرص ريكور على عقد مصالحة بين التحليل البنيوي الذي يشتغل على نص مغلق وبين
هرمينوطيقا التأويل التي تفتح النص على القول الراهن وتظهر استراتيجيا توافقية بين
أنطولوجيا المعنى وإرادة القول. من جهة يسمح التحليل البنيوي بالمحافظة على
الاستقلالية الذاتية للنص ويرفض من جهة ثانية أن يكون القصد في النص هو الذي يصرح
به المؤلف ويعيشه الكاتب الذي شكله بل ما يريد النص أن يقوله. وهكذا يصبح التأويل
حركة ذاتية على النص من المؤول وعملية موضوعية حينما تكشف عن حركة النص ذاته.
ثمرة هذه التصالح هو أن يكون للنص
مؤوله الخاص وأن تضع نظرية النص نفسها في خدمة نظرية الفعل وتعتبر نفسها نموذجا
لها، وبالتالي تبيّن الأنثربولوجيا الفلسفية عند ريكور على أن النص يعني إرادة
قوله وتشير إلى أن الفعل الإنساني يمنح المعنى إلى كل من يعرف القراءة بواسطة
الفعل في حد ذاته. في هذا المقام يسمح مفهوم الفعل بقيام تداولية الذات التي تطرح
سؤال من؟ من جهة وتبرر النموذج الهرمينوطيقي الذي يؤسسها من جهة أخرى وتربط سؤال
من؟ بالفاعل الذي ينسب إليه الفعل أي الأنا أو الأنت أو الهُو16.
من هذا المنطلق تقوم نظرية الفعل
بالتقريب بين بنية فعل الخطاب والتلفظ وبين الوظيفة الحملية للفعل ووظيفة فعل
الخطاب ويعيد ريكور ما قام به أوسطين لما وضع في نفس النموذج الإنجازي فعل الكلام
وفعل العلامة واستخدم بعض الاستعارات للدالة على أن الفعل الإنساني مفتوح على من
يجيد القراءة. في هذا الصدد تمثل الاستعارة الحية نقطة التقاء بين نظرية النص
ونظرية الفعل ونظرية التاريخ وتسمح في النهاية بان يكون الفعل أثرا مفتوحا إلى عدد
كبير من القراء وأن يتحول التاريخ إلى نوع من السرد يتجلى في الوثائق والأرشيفات
والمتاحف التي تفترض الاشتغال على تأويل دلالة اللغة التي دونت بها.
لقد اعتنى ريكور بالنوع السردي من
الخطاب وقام بالتنظير إلى الكلام ولكنه لم يؤسس فلسفة أنثربولوجية حول الخطاب ولم
يجعل من الخطاب شرطا لقيام الأنثربولوجيا بل وقع في الخلط بين المتلفِظ والمتلفَظ
وأبقى على الذات الميتافيزيقية ضمن حدود نظرية الكلام التي تظل فلسفة لغة تحتاج
إلى إمداد من الأدب. لعل اختياراته السردية قد سمحت له بالتركيز على النصية
والتحدث عن البنى السردية وتصورات الذات التي ترجع إليها وإعطاء أولوية للقص في
مستوى القصيدة ومعرفة الأدوار الذي تؤديها أخلاقيا وسياسيا.
غير أن الأدب ليس المشكل الرئيسي
للأنثربولوجيا الفلسفية عند ريكور، فنحن نظل نتحدث إليه دون أن يتحدث إلينا ويبقى
يعرف بوصفه شبكة من النصوص المنتمية إلى شبه عوالم نصية. ويبقى الأدب منغلقا في
عزلته مثبتا في خارجية بينصية وفاقدا لفكر التاريخية والقيمة17. لكن إلى أي مدى
يصح هذا الرأي؟ هل العمل الأدبي مجرد خطاب أم هو شكل من التواصل؟ وما علاقة
التواصل الأدبي بالتواصل اللغوي؟ وكيف تطور مفهوم التواصل الأدبي بالحوار الذي
أجراه مع اختصاصات مختلفة على غرار الشعرية والسمونيطيقا والسيميائية والفلسفة
التحليلية والهرمينوطيقا الألمانية عند هيدجر وغادامير؟
لقد برزت أفكار ريكور حول الأدب
بوصفها نموذجا شاملا للدراسات النقدية في الحقبة المعاصرة وذلك لأخذها بعين
الاعتبار على قدر المساواة العناصر التكوينية الثلاثة وهي النص والمؤلف والقارئ18.
بيد أن الأطروحة التي يدافع عليها ريكور في هذا المقام تتمثل في إقراره بأن الأثر
الأدبي هو خطاب وبأن الأدب هو شكل من أشكال التواصل التي تغطي المجالات الثلاثة
للحياة ونعني شبكة الذات والغير والعالم. من هذا المنطلق يتنزل عمل ريكور ضمن
الاهتمام الهرمينوطيقي أثناء الحقبة الرومنطيقية بعلاقة المؤلف بالنص والقارئ فقد اعتقد
كل من شلايرماخر وديلتاي بأن معنى النص يرجع إلى قصد المؤلف وعبقريته الفذة وأن
القراءة يمكن أن تعيد معايشة المسار الإبداعي الذي قطعه المؤلف أثناء إنتاجه للنص.
غير أن التيار الماركسي دعا إلى
الابتعاد عن ربط معنى النص بالسيرة الذاتية للمؤلف وتركيز الاهتمام بالسياق
الاجتماعي الذي ساهم في إنتاج النص واتجه التيار الشكلاني إلى تسليط الضوء على
بنية العلاقات الداخلية لوحدات النص. لقد حاول بارت قراءة النص من زاوية التحليل
البنيوي الذي استنسخ النموذج المتداول في الصوتيات وركز على القواعد النحوية
واللغوية ودلالة الألفاظ واعتبر السرد جملة كبيرة والأدب مجرد كلام. غير أن هذه
النظرة المحايثة تختزل الحقل الثري والمنفتح للأدب وتركز على العلاقات الداخلية
بين العناصر وتغلق النص على نفسه وتعزله عن العالم وعن الآخر وعن فعالية الذات
وقدرتها على الابتكار الدلالي.
على خلاف ذلك، قام كل من ياوس في
استيطيقا التلقي وايزر في فنومينولوجيا القراءة المنحدرة من إنجاردن باكتشاف الدور
الكبير الذي يقوم به القارئ في التفاعل مع النص وتشكيل وإعادة تشكيل الأثر.
وبالتالي وقع تصور الأثر على أنه خطاطة ينبغي تجسيمها بشكل عيني من قبل القارئ
أثناء فعل القراءة. بعد ذلك نقد التفكيكيون مثل جاك دريدا وستانلاي فش بشكل صارم
هذه المقاربات وجمعوا القارئ والمؤلف وخلطوا بين معنى النص ومعنى القارئ وتحدثوا
عن الأثر وما يخلفه النص من حواشي وهوامش وتعليقات ورفعوا من قيمة ما يلحق النص من
انتقادات ومرجعات بدرجة تفوق النص الأصلي.
اللافت للنظر أن ريكور في كتابه
"الزمان والسرد" نحت مفهوما للأدب يجمع بين النظريات الثلاثة أي تلك
التي تدور حول المؤلف والقارئ والنص وقال بالتواصل الأدبي والتفاعل الدلالي بين
نقاط الارتكاز الثلاثة وعبر عنها بثلاثة أشكال من المحاكاة هي التشكيل المسبق
والتشكيل والتشكيل المعادة. بهذا المعنى يقوم المؤلف بتشكيل الأثر عبر فهمه المسبق
لعالم الفعل ويقوم القارئ بإعادة تشكيل هذا الأثر بوصفه تشكيل مسبق لشيء العالم.
لكنه قبل ذلك الوقت بقليل كان قد طرح للنقاش في كتابه المثير للجدل الاستعارة
الحية تصورا للأثر باعتباره خطابا وللأدب بوصفه شكلا من التواصل والخطاب بوصفه
حدثا.
لقد طور ريكور تصورا للخطاب
يستلهم فيه أعمال بنفنيست ونظرية أفعال الكلام عند أوستين وسورل بحيث صار الخطاب
بوصفه حدث الضديد للكلام المتصور بوصفه لغة وشفرة أو نسق من العلامات. وبالتالي لا
يكون للكلام ذات ولا مرجع ولا عالم ولا مقابلة إلا في الخطاب والكلام هو الحركة
التي يعلو بها المتكلم على انغلاق عالم العلامات ويقصد قول شيء معين حول شيء معين
إلى أحدهم وبالتالي يمثل التحدث الحركة التي تجتاز بواسطتها الكلام العلامة نحو
المرجع والإحالة والمواجهة مع العالم ومع الغير.
لم يعد النص عند ريكور بنية
منغلقة على ذاتها تتمتع باستقلالية عن كل إحالة واقعية وعن كل مرجع خارجي بلا عالم
وبلا قارئ كما هو الشأن عند البنيويين وإنما هو خطاب مثبت بواسطة الكتابة وبعبارة
أخرى النص ليس نسيجا من العلامات كما هو الشأن عند بارت بل تجسيد الخطاب ويظهر
باعتباره شكلا من أشكال التواصل بافتراض أن أحدهم يتحدث إلى شخص آخر من أجل أن
يقول له شيئا عن شيء آخر.
لقد وضع ريكور نصوصه التأصيلية
للفلسفة الهرمينوطيقية على خطوات التي قطعها جورج هانز غادامير في رهانه معا على
كل من المؤلف الذي كتب النص والقارئ الذي تقبل الأثر ومعنى النص حينما يقول شيئا
معينا والإحالة التي يقصدها المعنى ويرجع إليها لما يجعل النص يعلق على شيء معين19.
في مقابل انغلاق النص يؤكد ريكور
على انفتاح الخطاب على العالم ويدعو القارئ إلى السكن في عالم النص وبالتالي لا
يهتم ببنية النص الداخلية ولا بالعلاقات القائمة بين العناصر التي يتكون منها
مثلما تفعل البنيوية بل يولي عنايته بما يقوله النص لنا عن العالم ولا يعني
بالتأويل عملية البحث عن الغير ومقاصده النفسية التي تختفي وراء النص دون اختزاله
في استخراج البني التي توجد في النص وإنما توضيح نوعية الكيان في العالم الذي
ينتشر أمام النص ويضطلع بمهمة التحديق في العالم الخاص بالنص الفريد20. كما يحمل
المنهج التأويلي على عالم النص الذي ينتشر في الأثر حرص القارئ على فهمه دون البحث
عن مقاصد المؤلف من وراء النص ودون السقوط في النزعة النفسية التي تستوجب فهم
نفسية الغير المؤلف.
غني عن البيان أن العمل الأدبي
عند بول ريكور يقوم بإسقاط عالم ممكن قريبا من العالم الخيالي لتوماس بافال، ولذلك
يثني على ملكة التخييل الشعري لما يمنحاه من إمكانيات جديدة للكيان في العالم
والانفتاح على الحياة اليومية ولكونهما يرنوان الى الوجود لا من جهة الوجود المعطى
بل من جهة اقتدار الوجود. من البديهي أن يتحدث الأدب عن العالم وأن يبلور عوالم
أخرى ممكنة وتكون مختلفة ومتنوعة عن عالمنا ومن المنطقي أن يتخلى ريكور عن
البنيوية وأن يعتمد على الهرمينوطيقا باعتبارها فن تمييز الخطاب في الأثر والتطرق
الى عناصره الداخلية على غرار المكون والأسلوب والنوع عند المرور بمرحلة التفسير.
لقد اعتمد ريكور على التفسير لكي
يضع المعنى في مسافة معينة والارتقاء بالتأويل من السطح إلى العمق واحلال التأويل
الموضوعي مكان التأويل الذاتي للأثر المتجلي في النقد الأدبي وما يثيره من
انطباعات ويفتش عن التطابق بين التفسير والفهم وبين الابستيمولوجيا والأنطولوجيا
ضمن قوس هرمينوطيقي واحد. إذا كان التفسير يعني استخراج البنية والتعرف على
العلاقات الداخلية التي تشكل الجانب السكوني من النص فإن التأويل هو السير في
الطريق إلى معنى النص وترك الفكر لأعينه مفتوحة أمام الأثر21.
في كتابه الزمان والسرد، يضيف
ريكور إلى مقولات جنيه جينات المحايثة للنص أي التلفظ في زمن فعل السرد والملفوظ
الذي يناسب زمن السرد مقولة ثالثة هي عالم النص التي تناسب التجربة التخييلية
للزمان ويرى أن ما يُشكل في الأثر يعاد تشكيله عن طريق فعل القراءة الذي يربط بين
عالم الأثر وعالم القارئ. إن فعل القراءة هو نقطة استراتيجية في نظرية ريكور ويمثل
النقطة التي يجري عندها التواصل الأدبي وذلك لكونها تجمع بين ثلاثة اختصاصات
مختلفة وهي أولا خطابة التخييل وهي استراتيجية يتبعها المؤلف موجهة نحو القارئ
ويريد أن يشركه في رؤيته للعالم، وثانيا شعرية الكاتب التي يسعى إلى تسجيل هذه
الإستراتيجية في تشكيل أدبي قصد تلبية انتظارات القارئ، وثالثا فنومينولوجيا
القراءة التي تأخذ بعين الاعتبار الذات القارئة وضمن إستراتيجية متكاملة من جمالية
التلقي تعير الاهتمام بالجمهور المتقبل.
على هذا النحو كان النموذج
الريكوري تأليفا بين التمشيات المختلفة في اتجاه بلورة نص أدبي واضح المعالم، ولقد
جمع ريكور من خلال بناء مفهوم إعادة التشكيل بين الخطابة الموجهة نحو المؤلف
المفترض والشعرية الموجهة نحو النص وفنومينولوجيا القراءة وجمالية التلقي
الموجهتين نحو القارئ22.
- في
البداية كمرحلة أولى يهتم ريكور بخطابة التخييل عند واين بوث وميشيل شارلز لكي
يركز الانتباه على مسار خلق الأثر والتقنيات التي تمنحه التواصلية وخاصة المؤلف
المفترض والصوت السردي أو السارد والأسلوب.
- في مرحلة
ثانية يركز ريكور على البعد الشعري في النص بوصفه الجانب الديناميكي ويكشف عن ثراء
مخزونه الدلالي وقدرته على إنتاج المعنى من خلال الاستعارات الحية والمحاكاة
والتحبيك والسردية.
- في مرحلة
ثالثة يعطي ريكور للقارئ الواقعي دورا كبيرا في عملية إعادة تشكيل الأثر من خلال
تجاوبه الفعال مع استراتيجيات المؤلف المفترض تأثرا بفنومينولوجيا القراءة عند
ايزر وجمالية التلقي عند ياوس. غير أن ريكور يبحث عن طرق لتجاوز جمالية التلقي
وذلك بربط الصلة بين القراءة وأنطولوجيا الأثر وإحداث تقاطع بين عالم النص وعالم
القارئ من خلال تحقيق التواصل بين الأثر والمرجع المشار إليه. هكذا تجمع الآثار
الأدبية بين الاستعداد للتواصل والقدرة على الاحالة وتعبر عن التعالي في المحايثة
وتحمل الى الكلام تجربتها وتتحدث عن أشياء تهم العالم الذي يسكنه الإنسان وتتكلم
عن الحياة والموت والحب والعلاقة بين الذات والآخر ونفسها والعلاقة بين الإنسان
والمقدس والزمان والحلم وتطرح قيما اجتماعية وأخلاقية وفلسفية ودينية لا يمكن
فهمها إلا بمواجهتها مع خلفية وجودنا وربط صلة بينها وبين عالم القارئ وقيمه
الخاصة. لكن ماهي خصوصية التواصل الأدبي الذي يترتب عن محبة النص؟
من المعلوم أن الأدب شكل من أشكال
الخطاب وأن التواصل الذي يؤمنه يتميز بخصوصية بالمقارنة مع أشكال التواصل عن طريق
الأفعال الأخرى التي ذكرها رومان جاكوبسون في كتابه الألسنية والشعرية والتي تتمثل
في إرسال الباث لرسالة مكتوبة بلغة مشفرة إلى متقبل عن طريق قناة وضمن سياق معين.
لعل ميزة التواصل الأدبي تكمن في كونه تواصل غير مباشر بل أكثر من ذلك تتخلله
الوسائط الرمزية واللعب الوجودي والخيال السردي وفي المستوى الثاني تظهر الآثار
الأدبية على أنها مؤلفات مكتوبة وبالتالي يختلف التواصل عن طريق الكتابة عن
التواصل الشفوي ويبدي الكتاب الأدبي انفتاحا غير محدود ولامتناه تجاه القراء ومع
المتلقين.
بعد ذلك يظهر أن التواصل الأدبي
مشروط بالسياق الاجتماعي والتاريخي للقارئ ومشروط ثقافيا أيضا. لكن الإحالة
الأدبية إلى الواقع تظل إحالة استعارية مجازية وتتم بطريقة غير مباشرة وبالتخييل
والمحاكاة. في نهاية المطاف يعترف ريكور بأن فهم وتأويل النصوص لا يؤدي إلى فهم
الغير بل يفسح المجال إلى فهم أعمق للذات وأن الكلام الأدبي قادر على الزيادة في
القدرة على الاكتشاف وتحويل الواقع الإنساني. لكن كيف استثمر اعادة التشكيل لبناء
هرمينوطيقا الذات؟
خاتمة:
" هل يمكن
أن نتحدث عن تصور مشترك للهرمينوطيقا من غادامير الى ريكور؟ "24
لعل ما اصطلح على تسميته
بالهرمينوطيقا يغطي ثلاث عمليات فكرية متميزة. الأولي هي من النوع المنهجي الذي
يقوم بفسيرما يوفره الكتاب المقدس من مواد ويضع له قواعد لتفسير النصوص. إلا أنه
يجمع بين مختلف التخصصات، بدءا من فقه اللغة إلى العلوم الإنسانية من خلال القواعد
النحوية والمنطق والخطابة ويحاول استعادة معنى النص الذي من المفترض أن يعبر عن
نوايا المؤلف. لقد وضع فريدريك شلايماخر الأساس لمثل هذه الممارسة عند قراءة العهد
الجديد أو ترجمة أفلاطون والنصوص ما قبل السقراطيين. بالإضافة إلى التحليل النحوي،
يلجأ إلى التحليل الفني الذي يركز على الأسلوب، دليل على استخدام المؤلف الإبداعي
للغة.
لكن هذا الفن بقي لفهم أمر نفسي
للغاية، ويعتمد فقط على نظرية "أنا" يتحدث. من هذا المنطلق جاء فيلهلم
ديلتاي ليعطي الطريقة الأساس والأكثر موضوعية في فهم "الآثار المكتوبة"
ويأخذ دون شك بناء على بيانات القصة، لكنها تعتبر هذه كما شهادات كثيرة من الحياة.
من خلال توجيه التأويل نحو فك الترميز التاريخي للتجربة الحية، ويتجاوز الذاتية
لشلايرماخر ويأخذ بعين الاعتبار الوضعية التاريخية المحيطة. وبذلك تحول الطريقة
إلى نهج معرفي ينطبق لاكتشاف المعايير الأساسية للتفسير. ومن خلال معالجة العمل
الشرعي الذي سيتبعه مارتن هايدجر وبول ريكور، يوسع، من ناحية، مجال التأويل، في
داخله تخصيص للموضوع ليس فقط النص، ولكن أيضا متعددة قطاعات من العالم الحي، ومن
ناحية أخرى، فإنه يثري أدوات التفسير، من خلال مناشدة العلوم الإنسانية الجديدة.
يمكننا أخيرًا لسماع التأويل، كما
هو الحال مع الظواهر، من التحليل النفسي واللاهوت، وهو النهج الفلسفي الذي يشمل
الخطوتين السابقتين. هو من خلال وضع أنفسنا في هذا المنظور الأخير سنتابع مسارات
التأويل الثلاثة للظواهر، التحليل النفسي واللاهوت وأننا سوف نمسح الأماكن
المشتركة أو التقاطعات، أين وجد التداخل بينها. لقد وضعت المؤسسة الدينية المسيحية
بول ريكور سنة 1994 في مرتبة رفيعة تتعلق بالمفكرين المفسرين الذين لا غنى عنهم في
فهم الكتاب المقدس والفلاسفة الهرمينيطيقين25 الذين يشتغلون بمسألة تأويل المعتقدات
والآراء والتراث الرمزي للكنيسة في بعدها الكاثولوكي والبروتستانتي26. بيد أن بول
ريكور يعترف بالعلاقة المعقدة والشائكة التي يمكن ايجادها بين الهرمينوطيقا
الفلسفية والهرمينوطيقا الدينية وتترواح بين تبادل التضمين والاحتواء المزدوج
والتمايز الإجرائي بينهما.
والحق أن النموذج التأويلي الذي
يحتذي به بول ريكور في أعماله يرسم قوسا هرمينوطيقا كاملا حيث يحدث تمفصل بين
التفسير العلمي العقلاني للنص الديني والاعتراف بالقراءة الاعتقادية التي تتبع
الطريقة الطقوسية الشعائرية للإيمان. كما يكمن غرضه الأساسي في تتبع القصد المرجعي
والنوايا الاحالية للنص في اتجاه المعنى نحو أنطولوجيا خاصة ورؤية للواقع. لقد
توغل بول ريكور إلى أعماق أبعد من الإقرار الذي توصلت اليها المدرسة اللاهوتية
الجديدة ييل ودشن نموذجا ايمانيا، يتوسط النمط التعبيري التجريبي عند تراسي27
والنمط الألسني الثقافي عند مدرسة ييل28 الذي يفضي إلى التناص البنيوي لبول
بوشامب29، ويتمحور حول شعرية توليدية30.
بهذا المعنى فك بول ريكور عن نفسه
العزلة التي كانت مضروبة عليه لمدة طويلة في بلده فرنسا عندما اعتبر نفسه المدافع
الأبرز عن فلسفة تأويلية ضد تحديات السيميائية وعلم النفس التحليلي31. لقد اشتغل
ريكور كثيرا على تطوير هرمينوطيقا مستقلة تظل عصية على معظم الجهود التي بذلها
غالبية الشرّاح لما تتضمنه من منعطفات وتطعيمات بحيث يصعب التفطن إلى إسهاماتها
وأصالتها وموطن الجدة والطرافة.
لقد فضّل ريكور المرور إلى
الممارسة والتطبيق للمنهج الهرمينوطيقي وجرّبه في العديد من المناطق التي كانت
محظورة والأماكن المهجورة والحقول البعيدة على غرار الدين واللاوعي والسياسة
والرمز والسرد والأدب والاستعارة والسلطة والرغبة والتاريخ والزمان والذاكرة. بيد
أن هذا التطبيق المكثف ساعد ريكور على صياغة مفهوم مبتكر عن الهرمينوطيقا
الايجابية ترتكز على معنى للسردية يمكن الاشتغال عليها في إطار علاقاتها بزمانية
الوجود بالنسبة للتجربة السردية الإنسانية32.
لقد دافع ريكور عن كونية العقل
الهرمينوطيقي الذي يقوم بالتأليف بين هرمينوطيقا الارتياب التي تسعى إلى التخلص من
الأوهام النفسية التي تقع فيها الذات بسبب الاغتراب والرغبة وهرمينوطيقا الثقة
التي تفتح الوعي على المعنى والعالم والحقيقة وكل ما يتعالى على النص. لقد تمثلت
إستراتيجية الهرمينوطيقا في الارتفاع على التأويلات الاختزالية والتفسيرات الجزئية
التي يمارسها علماء التفسير في قطاعات خاصة وفق لغة تقنية تهم الدائرة الضيقة
لعملهم العلمي والاحتكام إلى الكون الهرمينوطيقي الذي يتخطى أوهام الوعي المجرد
الذي يقطع صلته بالعالم.
لقد حافظ ريكور على التمييز
النقدي بين المعنى والحقيقة وطالب الوعي الباحث عن الحقيقة بالتدرب على التنائي المنهجي
الذي يدعمه التفسير البنيوي بغية التخلص من الفهم الطبيعي الواثق في المعنى
الحقيقي وتسليح الهرمينوطيقا بإرادة الفهم قصد تخطى الفهم المسبق وسوء الفهم
ومواجهة البنيوية والتحليل النفسي والسيميائية وتجاربها عن الحقيقة وفق المراقبة
العلمية. غاية المراد أن الهرمينوطيقا الريكورية تعيد إنتاج جدلية الفهم بواسطتها
ومن أجلها وتجري انعطافا بالتنائي المنهجي عن الفهم لكي تفسر النص أكثر من أجل أن
تفهم الذات بأكثر عمق. لكن الشراح غروندان يشكك في أن يمتلك كل من غادامير وريكور
تصورا مشتركا للهرمينوطيقا ويبرهن على ذلك بأن الأول بحث عن تطوير هرمينوطيقا
فلسفية للعلوم الانسانية بينما هاجر الثاني بالهرمينوطيقا الى حقول بعيدة واشتبك
مع العديد من المدارس وحاور مختلف المرجعيات الفكرية والأنماط التعبيرية33.
لقد نَزَّل الشارح جان غرايش
المجهود الذي قام به ريكور ضمن إعادة تأسيس الأنطولوجيا التي دشنها مارتن هيدجر
ولكن من منظور الهرمينوطيقا من حيث هي طريق فلسفي وقام بتقسيم هذا المجهود إلى
مرحلتين: الأولى جاءت بعنوان الانتقال من هرمينوطيقا الرموز إلى هرمينوطيقا النصوص
والمرحلة الثانية أدرجت في الفلسفة الأنثربولوجية وانتقالها من الإنسان اللاّمعصوم
إلى الإنسان القادر34.
لقد حرص بول ريكور على تلقي الإرث
الفنومينولوجي للتصور الهرمينوطيقي للكلام وفي المقابل قام بغرس الهرمينوطيقا داخل
العمل الوصفي للفنومينولوجيا وتأصيل التأويل في الظواهر. لكن كيف جعل ريكور
النظرية السردية بعدا وجودانيا للوضع البشري في صلته بالزمان عبر تخطيه التفسيرات
العلموية للتاريخ والأسطورة وعبوره نحو بناء الذكاء السردي للهرمينوطيقا الكلية؟
الإحالات
والهوامش:
[(1)]
Ricœur (Paul), De texte a l’action, essais d’herméneutique, II, édition seuil,
Paris (1)986, p3(1).
[2] Voir Merleau-Ponty Maurice, les aventures de la dialectique, édition
Gallimard, Paris, (1)955.
[3] Paul Ricœur, Cinq études herméneutiques, Genève, Labor et Fides, coll. «
Logos », 20(1)3, (1)44 p., préface de Jean-Marc Tétaz
[4] Benjamin Fabre, « Paul Ricœur, Cinq études herméneutiques », Archives de
sciences sociales des religions [En ligne], (1)76 | octobre-décembre 20(1)6,
mis en ligne le 20 juillet 20(1)7, consulté le 20 janvier 20(1)9. URL:
http://journals.openedition.org/assr/28332
[5] يمكن ترجمتها بالتماسف أي اتخاذ مسافة نقدية من
الموضوع المدروس
[6] Benjamin Fabre, Paul Ricœur, Cinq études herméneutiques, Archives de
sciences sociales des religions, (1)76, 20(1)6,378.
[7] Voir Grondin Jean, l’horizon herméneutique de la pensée contemporaine,
op.cit.p(1)80.
[8] Voir Amherdt François –Xavier, l’herméneutique philosophique de Paul Ricœur
et son importance pour l’exégèse biblique, édition du Cerf, coll, la nuit
surveillée, Paris, 2004,
[9] Benjamin Fabre, Paul Ricœur, Cinq études herméneutiques, Archives de
sciences sociales des religions, (1)76, 20(1)6,378.
[(1)0] Ricœur (Paul), Lectures 2, la contrée des philosophes, op.cit,p.487
[(1)(1)] Multivoque
[(1)2] Dennett Daniel C., la stratégie de l’interprète, le sens commun et
l’univers quotidien, édition Gallimard, Paris, (1)990. 493.
[(1)3] Ricœur (Paul), De l’interprétation, essai sur Freud, édition du Seuil,
Paris, (1)965.pp. 29-36
[(1)4]Ricœur Paul, De l’interprétation, essai sur Freud, op.cit,p.67.
[(1)5] Dessons Gerard, Paul Ricœur, l’amour du Texte, in Europe, revue
littéraire mensuelle, littérature et philosophie, 78 année- n849-850, janvier-
Février 2000,pp.280-296.
[(1)6] Dessons Gerard, Paul Ricœur, l’amour du Texte,op,cit,p293.
[(1)7] Dessons Gerard, Paul Ricœur, l’amour du Texte,op,cit,p296.
[(1)8] Vultur Ioana, la communication littéraire selon Paul Ricœur, in
Poétique, n (1)66, avril 20(1)(1), édition du Seuil, Paris, 20(1)(1),pp.24(1)-249.
[(1)9] Voir Paul Ricœur, le retour de Gadamer, le journal Libération, 4 juillet
(1)996.
[20] Vultur Ioana, la communication littéraire selon Paul Ricœur,op.cit.p 243.
[2(1)] Vultur Ioana, la communication littéraire selon Paul Ricœur,op.cit.p
244.
[22] Vultur Ioana, la communication littéraire selon Paul Ricœur,op.cit.p 245.
[23] Vultur Ioana, la communication littéraire selon Paul Ricœur, op.cit.p 248.
[24] Jean Grondin , « De Gadamer à Ricœur », in Paul Ricœur, de l’homme
faillible à l’homme capable, sous la -dir-ection de Gaëlle Fiasse, édition PUF,
Paris, 2008 , pages 37 à 62.
[25] Document de la commission biblique pontificale « l’interprétation de la
Bible en Eglise » (1)994.
[26] Voir Daniel Frey, Paul Ricœur, philosophe et protestant, in Revue Esprit,
Novembre 20(1)7, N
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق